حُفرة دائرية الشّكل، يمتد قطرها لنحو 7 أمتار مقارباً من عمقها، تتوسط فناء حيّ سكني، يتوسط هو الآخر قلب مدينة صنعاء القديمة، ولافتة نحاسية وحيدة، هي الآثار المتبقية لما يُعرف تاريخياً بـ” كنسية القلِيّس”، أو “كعبة أبرهة”، وما تسمّى شعبياً وبلهجة صنعانية “غُرقة القَلِيس”.
إنّها واحدة من مفردات التراث الحضاري لمدينة صنعاء، غير أنّ دلالاتها الدينية وانعدام الوعي المجتمعي بأهميتها التاريخية جعلها في قائمة المراكز المعادية للإسلام، فكان التدمير نصيبها وما يمكن تسميته بالإهمال المتعمّد لما تبقى من أطلالها.
يوضح خالد الابراهيمي، رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية في اليمن اعتزامهم إعادة تأهيل موقع “غُرقة القليس”، ضمن دراسات لتنفيذ مشاريع مستقبلية تشمل أهم مواقع الموروث الثقافي داخل مدينة صنعاء القديمة، منها ” السماسر، المقاشم، الأضرحة والمساجد”.
إنجاز دراسة شاملة
يؤكّد المهندس مجاهد طامش، رئيس مركز الدراسات المعمارية التابع لهيئة المحافظة على المدن التاريخية، أنّ المختصين لديهم أنجزوا دراسة شاملة لترميم عدد من المعالم الدينية التاريخية منها غرقة القليس، وأشار إلى أنّ هذه الدراسات تتضمن البعد التاريخي والأثري للموقع وما يحيط به.
وصرّح المهندس مجاهد طامش أنّ المشروع يتضمن ليس فقط إعادة تأهيل الموقع، وإنما العمل على تحسين واجهات المنازل المحيطة به، وقال: “سيتم إعادة تأهيل الموقع بالكامل وإعادته إلى هويته السابقة”، وبما يسهم في عملية الجذب السياحي والحفاظ على الموقع التاريخي.
روايات تاريخية
تُشير المصادر والروايات التاريخية إلى إنشاء “كنيسة القَلِيس” على إثر غزو الحبشة لليمن سنة (525) ميلادية، وارتبط اسمها بالقائد الحبشي الشهير “أبرهة الأشرم”، ويُروى شعبياً أنّ إنشاءها جاء بهدف صرف العرب عن الحجّ إلى مكّة، والتحول إلى صنعاء، ويستند أصحاب هذه الرواية إلى ارتباط ” كعبة أبرهة” بقصة أصحاب الفيل، التي ورد ذكرها في القرآن.
حول قصّة أصحاب الفيل هذه وحكاية نيّة أبرهة هدم الكعبة، علّق المهندس مجاهد طامش أنّها ليست مؤكّدة، مشيراً إلى ما وصفها ببعض المخاوف التي انتشرت خلال المراحل الزمنية المتعاقبة حول هذه القصة “موقع الكعبة وقصة هدم الكعبة”.
إهمال رسمي متعاقب
بموازاة ذلك، يستنكر نائب مدير عام التخطيط بهيئة المحافظة على المدن التاريخية، زياد علي حمود الكحلاني، عدم وجود سجلّ توثيقي تاريخي لـ”غرقة القليس”، مؤكداً على أهمية الاهتمام بها كمعلم وأثر تاريخي يخص مدينة صنعاء واليمن والجزيرة العربية ومنطقة الشرق الأوسط.
وقال المسؤول بهيئة الحفاظ على المدن التاريخية: “الغُرقة تؤرّخ لمرحلة زمنية معيّنة، في بقعة جغرافية محدّدة، لقد خُلّدت في القرآن وأهملها الانسان في الواقع”، وأضاف: “بحكم أنها كنيسة نُظر إليها من زاوية دينية بحتة من السلطات المتعاقبة على مر العصور، فكان الإهمال نصيبها حتى يومنا هذا”.
على غرار الكنائس الكبيرة، مثل كنيسة القيامة وكنيسة الميلاد وكنيسة المهد في فلسطين، بُنيت كاتدرائية القليس في صنعاء بتوجيهات من الإمبراطور الروماني، كمركز لنشر الديانة المسيحية في الشرق الوسط والقرن الإفريقي، لتعدّ ثاني أهمّ معلم ديني في شبه الجزيرة العربية بعد الكعبة.
لغط التسمية
بالعودة إلى تاريخ إنشاء الكنيسة يستعرض زياد الكحلاني، المسؤول بهيئة الحفاظ على المدن التاريخية، محطات في قصتها التي ما تزال محاطة بسياج من الأسرار والحكايا الشعبية المتناقلة عبر الأجيال.
وصرّح الكحلاني، وهو من أبناء صنعاء القديمة، بأنّ هناك لغط في تسمية الكنيسة، موضحا أنّ الاسم الصحيح هو “القلِيّس“- بكسر اللام وتشديد الياء- وأنّ اسم القَلِيس دون تشديد الياء هو اسم الحي السكني (حارة غرقة القليس)، في المنطقة.
محطات في تاريخ الكنيسة
“كانت عبارة عن كنيسة، ثم تحولت إلى حفرة تتجمع عليها مياه الأمطار”، وحسب المختص بهيئة الحفاظ على المدن التاريخية، زياد الكحلاني، فقد جرى ترميم رمزي لجزء منها في عهد الإمام أحمد حميد الدين (1940م)، ببناء جدار الغرقة بمادة “الِّلبن- الزّابور” وهو الطّين الأحمر بعد إحراقه.
ولفت إلى استبدال مادة الطّين بالحجر الأسود عام1976م، في شكل سياج حجري يلف موقع ما تبقى من الكنيسة، وذلك بتوجيهات من الرئيس إبراهيم الحمدي.
“في عهد الرئيس على عبدالله صالح، تمت إضافة سياج حديدي فوق جدار الغرقة الحجري”، يضيف زياد الكحلاني: “وذلك بهدف منع رمي القمامة والمخلفات داخلها من قبل سكّان الحي ومنع الأطفال من اللعب بالقفز إلى داخلها”.
روايات هدم الكنيسة
يؤكد الكحلاني أنّ حجم الكنيسة كان أكبر بكثير من الغُرقة الموجودة حالياً، ويتّفق الكحلاني مع رواية هدف إنشاء الرومان للكنيسة، وقال: “لقد بذل أبرهة الغالي والنفيس في سبيل إقامة الكنيسة”.
وتزعم هذه الرّواية أنّ عزوف الناس عن الكنيسة أثار غضب أبرهة، الذي توجّه حينها على رأس جيش كبير لهدم الكعبة في مكة المقدسة لدى اليمنيين.
ورجّح الكحلاني أنّ “القليس” تعرّضت للهدم في عهد الخليفة العبّاسي أبو العباس، سنة 754م، عندما أرسل خاله، الربيع الحارثي، والياً على اليمن مع رجال، هجموا على الكنيسة، واستولوا على محتوياتها من جواهر نفيسة وذهب وفضّة وفسيفساء قبل هدمها وتسويتها بالأرض.
تبحث السلطات المختصة عن تمويل لإنجاز المشروع، وفي حال كتب له النجاح، يرى مختصون حينها أنّ قرع أجراس المسيح* من قلب صنعاء، معانقاً مآذن مساجدها، سيكون له دلالات عميقة على قيم التسامح الديني والتعايش الإنساني في المنطقة.
_______
* قرع اجراس الكنيسة: عادة متوارثة تعود إلى زمن القديس بولينوس أسقف نولا الذي خلق رابطاً ما بين الأجراس والكنيسة، ففى نهاية القرن الرابع الميلادي عندما أعلنت الدولة الرومانية أن “المسيحية” واحدة من الديانات في الدولة، تم استخدام الأجراس للإعلان عن بدء الصلاة في الكاتدرائيات، بالإضافة إلى استخدامها فيما بعد للإعلان عن الصلوات في الكنائس كلها.
لا نريد سماع أجراس الكنيسة