التنهيض الثقافي يحتاج وعيًا حاضرًا بطبيعة الحياة اليومية التي يعيشها كلُّ فرد في المجتمع.
يُخبرُ التاريخ إنَّ الوطن يحتاجُ للثقافة كي يقوم على أعمدة، وأنَّ الغاية مِنْ بناء أمَّةٍ صحيحة الفكر كانت لانتشال أشواك التبعيَّة والسكوت عن الحقوق. كلُّ ذلك كان يتحقّق في اليمن مع توافر شخصياتٍ من أهلِ الثقافة والعلم والأدب، فإن احجتنا لتصعيدٍ نهضوي، فسيكون فقط عبر المحبرة والقَلم، وفي ساحات الثقافة والأدب.
لقد كان المسرحُ (أبو الفنون) طوال التاريخ مادة جوهرية في قوامِ المجتمع الثقافي، ومحرِّكًا لأفراده، وعنصرًا هامًّا في نقل الأفكار والتعليم والتوجيه، فلا غرابة في المـَثَل الشائع: “أعطني مسرحًا اعطيك شعبًّا عظيمًا”.
في حين لم يكن الأدب والفن والحافز للتثقف مطموسًا ومتواريًا من قبلُ كما هو الآن، في مدينة المكلا، الولّادة للفنانين والعلماء والنوابغ، بل في المقابل، ظهرت الرغبات بكثرةٍ في اهتمامات أقلَّ شأنًا.
إذ يقضي شباب المكلا أوقاتهم في سواحل البحر وعلى الملاعب الترابية وأمام طاولات البلياردو بحماسة وشغف، يفرّغون طاقاتهم فيها، ويستخدمون عقولهم وقدراتهم الفنيّة للظفر بالفوز وتحقيق الانتصار؛ ولمْ تنعكس تلك القُوى والرغبات في ميادين أخرى، أكثر أهمية وأجدى نفعًا، هي في واقعنا أقلّ سَمعًا وصيتًا من عداها. فالغاية هي تمرير الوقت بأيّ عملٍ وفعلٍ إنساني يُبعد البعض عن العادات السيئة والآفات، والبعض الآخر يجد فيه سلوة النفس وبهجة الروح، كما يكون مرتعًا للتنافس وإبراز مهارات الفرد الواحد، مما يكسب الأفراد مشاعرًا كانوا سيكسبونها في محافل ومقامات أعلى.
لكن مع عدم الاهتمام من الوسط العام بالمحافل الثقافية، فسيمتدّ التجاهل الحكومي للبنى التحتية الثقافية، وإنَّ الحديث ليطولُ عما جرى من تحويلات وتغييرات لدور الثقافة والفن وقاعات المسرح والندوة إلى ما يشبه البيوت المهجورة والثكن العسكرية، مثلما حصل مع مركز بلفقيه الثقافي غرب المكلا الذي تجمَّد نشاطه منذ 8 سنوات وتزيد.
إنّنا نعلم أنَّ المجتمع الخالي من الفِكر البنّاء مهدّدٌ جدًّا بنزول المِحَنِ عليه، مِن استغلالٍ واستبدادٍ وتغيِيبٍ للحقائق، وتمويه للوقائع وحجب للحوادث الهامة، مع مجتمعٍ شبابُهُ غير قادرٍ على رفع ركام الجهل من شبابيكه وأسيجته، يكون السطو والتحكّم عاليًا قائمًا بشموخ. لأجل ذلك، يقول المفكِّر الجزائري (مالك بن نبي): “من سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة، يبزغ الصنم”. ومع كل ذلك، فالثقافة لا تمدّ يدها سائلة مستجدية، فالإنسان هو من يحتاجها لينهضْ لا هي. ويعود المفكّر الجزائري قائلًا: “لا يُقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من الأشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار”. فالأفكار هي حَراك الإنسان الأول، وسبيله لحضارة جديدة.
بينما تصرّمت سنونٌ والمثقفون في بلادنا يطويهم الكفن والشيب، ويحالون للنسيان، والبعض تدنّس سمعته واسْمه، فيتوارون وراء الكواليس، أو ربما خلفها، في حجرات مهترئة، ليصعد على المسرح أناسٌ، لا تلوكُ ألسنتهم إلا التضليل ونواحيه، ولا تضيء كلماتهم إلا الجهل وضواحيه، فيكون مردُودُها أن تريحُ أنفسَ مستمعيها، وتوهمهم بالأمان. فمَن يجرؤ على أن يبعث بنفسه بعثًا جديدًا كمفكِّر إنسانيّ يعيد كلَّ ناصية إلى طريق الحق، وسلوك البر، وحسن الخُلق، وجمال الصنعة، وحسِّ الحريّة وعزة النفس الإنسانية؟ لم يشهد التاريخ نهضة ولا ثورة ولا قيامةً لعهدٍ جديد إلا بالمفكِّرين والمجددين والمحيين لسير الأخيار. أضف لذلك أنَّ اليمنَ لم تخرج من كنف العبودية والاستعمار والتعصبية النسبية والجَهَويَّة إلا بأدباءها وكتّابها، بقوة القلم ومتانة الفكرة؛ فكانت الصحف سلاحًا، والمسرح مدرسةً، والكتب خطيبًا موجِّهًا، والشباب نار متّقدة بوعي يطمحون لمعاني الحياة الحقيقية.
ومن الشواهد لدور الشباب في بثِّ الأفكار الجديدة وتحسين الأمم، نعود بالذاكرة إلى زمن الأوّلين، فنجد «أسامة بن زيد» يتولّى قيادة جيش المسلمين متجهًا إلى الشام في غزوهم للروم بعمر الثامنة عشر، ونلقى «محمد الفاتح» قد فتح القسطنطينية وعمره اثنين وعشرين عامًا، و«عبدالرحمن الناصر لدين الله» قد تولّى حكم الأندلس في الثالثة والعشرين من عمره، وغيرهم كثير ممّن امتازوا بحصافة الفكر وسداد الرأي وقوة المنطلق والعزيمة، ما بناهم سيبنينا وما قادهم لذلك سيقودنا – إن شاء الله- إلى عصرٍ عزيز لا مهانة ولا تحجير علينا فيه.
فمن ذلك يقودنا المسعى لتقوية فكرنا العام؛ فإذا ما قَوَتْ شَكيمة المجتمع -فكريًّا- وتوسَّعت فيه الأفكار والأنماط المتجدّدة والنوادي الأدبية العديدة، وبرزت فئة المثقفين كفئة قوية قادرة على تغيير أيّ شيء، فإنّ الغازي، أو المستَغِلَّ المشتهي، سيُستصعب عليه هدم هذا البنيان المتين الذي اصطف بالشباب، ودُعِمَ بالرجال، ومَتُنَ بالأمهات الواعيات الفاهمات. وجميعنا مسؤول في هذا القوام، مسئولون عن رفع الرزايا والأباطيل، وتغييرها إلى حقٍّ منير… والذمة مرهونة على كل نفس، ونستوعب ذلك من قوله تعالى: ﴿إ ِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ﴾ [الرعد:11]. فالتغيير هُنا فكري وأيديولوجي وسلوكي ونمطي وأخلاقي إلى كلِّ ما هو أعلى وأرفع؛ يحقّق بإذن الله التغيير النافع والعيش الناعم.
نستخلص إلى أنَّ الثقافة والآداب لم تولد من عدم، فأصل التفكير إلى اطّلاع ففهمٌ ثمَّ تأمل وتفطّن. فماذا كان أوّل أمرٍ يوحى إلى نبينا محمد ﷺ سوى أن كان “اقرأ”، قراءة فقط من أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، قراءة فقط من نمَّت العقول وأنارت العيون، فالقراءة هي من بنت وشيَّدت -بتوفيق من الله تعالى- أعرق وأعظم وأقسطُ حضارة وحقبة إنسانيّة. لن يظهر مفكّرون جدد إن لم ننوِ ذلك، ولن يبزغ فجرٌ جديد إن لم نُصبْ أسباب بزوغه، ولن يُدفن الإنسان حيًّا إذا ما فكَّر وعاش، بآماله وأحلامه وثقافته، مطالبًا بها لا يرمي بمصيره للآخرين.
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).