لا شيء يحظی بالرعاية والحماية في اليمن مثله، الحاكم الحقيقي للحياة وصاحب الأغلبية المطلقة واليد الطولی، وله الكلمة الأولی والأخيرة، الحاضر في كل وقت، وفي كل ظرف، في الفرح والحزن، والسلم والحرب، وفي الجبهات ولقاءات النخب والساسة، وجلسات الترفيه والمقيل والسمر.
إنه القات!.
يبدأ متعاطي القات يومه علی عجل، وما إن تحل ساعة شراء القات حتی يختل توازنه، إن كان في جيبه ثمنه فهذا منتهی الطموح، وإن كانت جيوبه فارغة فإنها كارثة ولابد من البحث عن حل قد يكون الاستدانة أو الشراء بالآجل أو التسلق علی أحد الأصدقاء أو المعارف، أو تيسير معاملة أو تمرير ورقة بمقابل، إن كان موظفاً.
حق القات، أو خزن له! جملتان ارتبطتا ارتباطاً وثيقاً بإنجاز المهام والمعاملات في الدوائر الحكومية وغيرها للحصول علی ختم أو توقيع هذا أو ذاك، حق القات هي العصا السحرية لاختصار الوقت والجهد والحصول علی ما ليس من حقك أو حقك.
إذا تمكن متعاطي القات من تدبير ثمن القات وشرائه لا يهم ما سيتناول علی الغداء، وهناك من لا يهتم ماذا سيأكل أفراد أسرته الذين يعولهم، الأهم من ذلك تأمين طقوس تناول القات ومستلزمات تلك الطقوس، المكان المريح والماء المثلج والمشروبات الغازية أو مشروبات الطاقة و كل الاختراعات والتحديثات التي أضيفت لتلك الطقوس.
تبدأ مراسيم تناول القات قبل الثالثة عصراً وقد تستمر للساعات الأولى من الليل أو تمتد لمنتصف الليل بحسب الكمية المتوفرة من القات والاعتياد وتتراوح فترة التعاطي ما بين أربع وسبع ساعات يومياً.
الطقس البارد عدو القات وعدو المخزنين، يتفانى مزارعو القات في رعايته وحفظه من موجات الصقيع خلال شهور الشتاء، ويرتفع سعره بشكل يعجز عن دفعه الكثير من متعاطي القات لأسابيع، وفي هذه الفترة تحديداً تنتعش كرة القدم في الحارات والأزقة حيث يتجه البعض للعب كرة القدم في الحارات والبعض يواصل النوم طوال اليوم، ولكن لا أحد يتعلم أو يقرر التوقف عن تناول القات، ولا يتراجع عن العودة لتناول القات بعد تراجع سعره نسبياً بانحسار موجات الصقيع خلال فصل الشتاء.
يظل القات أكبر مستنزف للمياه الجوفية، والمتهم الأول في جفاف الأحواض المائية، ومكامن المياه الصخرية في الأودية، ومع ذلك لم يحدث في أي مرحلة أن تم التعامل بجدية علی مستوی المعالجات -أياً كانت- مع موضوع القات من قبل الحكومات المتتالية، إذا ما استثنينا محاولات دعم وتشجيع زراعة المحاصيل النقدية محل شجرة القات، في حين سعت بعض منظمات المجتمع المدني إلی إشهار أنشطة متعددة ضد القات، لكن الكثير منهم أصبحوا مخزنين دائمين.
المفارقة أن التطور الطبيعي للمجتمع يفترض أن ظاهرة القات تتقلص تدريجياً، مثلها مثل الأمية والثأر والعديد من الظواهر والعادات، لكن ما يحدث عكس ذلك، فإضافة للأعداد المهولة من المخزنين تدخل أعداد إضافية من الشباب بنات وبنين في عالم المخزنين، الموضوع مزيج من موضة وتقليعة وهروب من الواقع، تجد البنت بكامل أناقتها وجمالها بإطلالة تضاهي نجمات السينما وهي جالسة تأكل أوراق القات، وتجد الشاب مع أصدقائه يتناولون القات، بحجة أنه يحفظ الشباب بدل اللف في الشوارع، والمعاكسة، والذي سيناقشك في الأمر سيقول ما البديل؟.
ببساطة لا يشترط أن يكون له بديل، وما تقوم به وأنت تتعاطی القات قم به وأنت لا تتعاطاه مثل سائر البشر في العالم، ويكفي أن نتساءل ما هي إنجازات المخزنين، وما إسهاماتهم في مسيرة البشرية علماً وتكنولوجيا؟ وليتنا نعترف أنه وراء قلة إنجازاتنا، وأحد أسباب الرشوة، ومداخل الفساد المالي والإداري، فكثير من القرارات والاتفاقات تتم في جلسات قات.
مليارات الريالات تدور في اليمن يومياً بين البائع والمشتري، والمزارع والناقل، لكنها مبالغ لا تخرج عن تلك الدائرة، ومن المنطقي أن مبالغ كبيرة كهذه تحصل عنها ضرائب تدخل خزينة الدولة، إلا أن ذلك لا يحدث وليس معروفاً علی وجه الدقة كم يحصل وكم يسرق منها.
يختلف اليمنيون، يتصارعون، يقتتلون، لكنهم لا يختلفون علی القات، ولو سافرت من صنعاء إلی عدن ستجد أن علم الجمهورية اليمنية يختفي بدءاً من الضالع، وكما تختفي عبارات وصور شهداء أنصار الله وتبدأ عبارات أخری وصور شهداء آخرين، يتغير المشهد ويتغير الطقس، لكن القات هو ما سيرافقك طوال الطريق، إنه القاسم المشترك أرضاً وإنساناً والكل مخزن.
هل يظل القات هو سيد الموقف؟ أم أن الزمن كفيل بمحاصرته؟
وهل تكفي عشرون سنة قادمة لنقرأ المشهد من جديد ونری موقع القات في المشهد اليمني؟
هل سيظل هو صاحب الجلالة، الآمر الناهي أم سيتحول بفعل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلی ممارسة محصورة في قلة من الناس؟
هذه المادة نشرت لأول مرة بتاريخ 2018-04-25.
هل وجدت هذه المادة مفيدة؟