داخل هيكلٍ سقفه من القش تجلس “الشيخة مُعجبة” على كرسي مزخرف محاط أطرافه بلون ذهبي، حاملةً في يدها صولجانًا، وقد اجتمع حولها رجال ونساء، من بينهم رجال حكماء يفوقونها سنًا، للاستماع إلى شهادة شخصين متخاصمين. ثم تفصل بينهما بحكمة وعدل، مُظهرةً قدرتها على حلّ النزاعات.
هذا وصف لمشهد من مسلسل “قرية الوعل” يُجسّد نموذجًا فريدًا للمرأة القوية والقادرة على القيادة ببراعة في صورة تبدو غير مألوفة في الدراما التلفزيونية اليمنية.
تدور أحداث المسلسل في إطار ملحمي أكشن، حول قريةٍ تُواجه حربًا من قبل دخلاء يسعون للاستيلاء عليها لأغراض مادية وحضارية. تتولى “الشيخة مُعجبة”، التي أدت دورها الفنانة نجيبة عبدالله، إدارة شؤون القرية وتواجه العديد من التحديات والأزمات لكنها تستطيع التغلب عليها بفضل شخصيتها القوية ومساندة سكان القرية بمن فيهم الرجال في صورة واضحة جسدت الذكورية الإيجابية.
في مشاهد أخرى من المسلسل ذاته، يَظهر أنها تحظى بدعم قوي من رجال القرية الذين يؤمنون بقدرتها ويلتزمون بأوامرها ويساندون قراراتها التي تتخذها عادةً بناءً على مشورة العُقلاء.
ولطالما مثّل حضور المرأة في الدراما اليمنية كقضية ومشاركة بشكل هامشي ومحدود، بصورة لا تعكس واقعها ولا تتبنى قضاياها، إلا أنّ في السنوات الأخيرة حدث تحول طفيف في بعض الأعمال الدرامية التي حاولت رسم بعض الشخصيات بشكل أخرج النساء والرجال من صور نمطية وتجسيدات غير واقعية.
نماذج
خلال الأعوام السبعة الماضية (2018 – 2024) تم إنتاج ما يزيد عن 80 عمل درامي في اليمن؛ غالبيتها كوميدية وركزت في مضمونها على قضايا تتعلق بالصراع على السلطة والثأر والذكورية السامة، وأخرى اجتماعية تحاكي حِقَباً زمنية ماضية؛ باستثناء أربعة مسلسلات خصصت مواضيع تُبرز من خلالها أدوار ونماذج إيجابية للذكورية.
من تلك الأعمال يستوقفنا مسلسل “الدلّال” الذي عُرض عام 2018، ويظهر دور “شكيب” (الفنان محمد قحطان) في دعم ومساندة شقيقته “فاتن” (الفنانة سالي حمادة) في العمل بمهنة البيع بين منازل القرية.
كما نجد في مسلسل “دروب المرجلة” مثالًا آخر عن الذكورية الإيجابية، في شخصية “الشيخ صقر” الذي جسدها الفنان زيدون العبيدي إذ أوكل لابنته “رشة” القيام بالعديد من المهام في القبيلة وشجعها على قيادة السيارة وتعلم فن الرماية. من خلال مَشاهد المسلسل، الذي تم عرضه في العام الحالي، نجد شخصية “رشة” التي جسدتها الفنانة أشواق علي، تتمتع بصفات الشجاعة والنُبل، وهو انعكاس للنهج الذي اتبعه والدها في تنشئتها.
وتُعرّف الأمم المتحدة مفهوم الذكورية الإيجابية بأنه نهجٌ شاملٌ يُشرك الرجال كحلفاء في تعزيز المساواة بين الجنسين ومكافحة العنف ضد النساء ودعم دورهن في عمليات السلام والسياسة واحترام حقوقهن.
مسلسل “ماء الذهب” أيضًا يظهر فيه مشاهد توضح دعم الأب لابنته وتمكينها من تحقيق طموحاتها. يُبرز المسلسل دور الأب “عبد الله” في مساعدة ابنته “عزة” لاستكمال تعليمها الجامعي. يتحدى الأب إعاقته وكبر سنه ليرافق ابنته، الطالبة في قسم الإعلام، لتحضير مشروع التخرج الذي يتطلب منها السفر إلى إحدى القرى الأثرية. هذان الدوران جسدهما الفنانان يحيى إبراهيم وسارة المغربي.
المسلسل الذي عُرض هذا العام خلال شهر رمضان “ناقش سلوكيات إيجابية في العلاقات الاجتماعية مثل علاقة عبد الله الكفيف مع ابنته عزة”، كما تقول يسرى عباس وهي كاتبة ضمن فريق سيناريست المسلسل، مضيفة “من هنا يظهر دور الأب الذي يدعم ابنته ويساندها وخصص معظم وقته لها”.
هذه الخطوة لإظهار موضوع الذكورية الإيجابية “كانت مدروسة لتناولها ضمن أحداث المسلسل” بحسب عباس التي تتابع حديثها لمنصتي 30 أنّ “الرجل هو حماية للفتاة وقوة وسند أيضًا ومن حق الفتاة أن تتعلم وتعمل وتشارك والدها أو أخيها تفاصيل أحلامها وأن يكونوا بجوارها لأن قوة الأنثى مستمدة من أهلها”.
وترى أنه يتوجب تركيز الدراما اليمنية على “السلوكيات الإيجابية والعلاقات وطرح المواضيع والحلول لأن الدراما رسالة غير منقطعة ولها تأثير أكثر من المدرسة أو الجامعة فهي تصل كل منزل”.
تناول محصور
النوع الاجتماعي (الجندر) والذكورية الإيجابية وغيرها من القضايا المتعلقة بالأدوار الاجتماعية للمرأة وإظهارها كعنصر أساسي وفاعل في بناء المجتمع، ماتزال محصورة التناول في وقت مايزال فيه إنتاج الدراما اليمنية موسميًا ويرتبط بشهر رمضان فقط، وذلك نظرًا “لمحدودية الإنتاج والإبداع” بحسب المخرج وصانع الأفلام محمد طالب.
الحضور الهامشي لقضايا المرأة يعود، وفق طالب، لسيطرة ما سمّاها “جهات متشددة دينيًا أو اجتماعيًا على غالبية الحصة الإنتاجية للأعمال الدرامية في اليمن، وهي بهذا تقوم بتوجيه ومعالجة السيناريو والرؤية الإخراجية بما يتوافق مع أيدولوجياتها وأفكارها”، حد تعبيره.
ومن وجهة نظره فإن هذا الأمر بالنسبة له “يمثل حجر عثرة أمام صناع هذا المجال الذين يطمحون للخروج من عباءة الأفكار والأيدولوجيات الجامدة ومحاولة تقديم أعمال فنية تلامس الواقع بشكل أكبر”.
كما أن هناك سبب آخر وراء تلك المحدودية في التناول، تراه الكاتبة والناقدة السينمائية هدى جعفر، بأنه يكمن في “سُوء الكتابة في الدراما سواء في تناول الذكورية الإيجابية أو مواضيع أخرى مثل التعليم والفساد والتوريث والأمية لم يتم مناقشتها”.
وتقول لمنصتي 30، إن “إنتاج العمل الدرامي يتطلب عدة مراحل. أهم مرحلة هي الكتابة وهي أكثر منطقة يعتريها الضعف في الدراما اليمنية. فضلًا عن هيمنة الرجال على العمل ككاتب ومخرج ومنتج وفي نهاية الأمر هم يمارسون العنف بشكل أو بآخر”.
وسائل تعزيز
ويتفق طالب مع جعفر حول مشكلة الكتابة، ويرى أن هنالك “أزمة في السيناريو (…) ولا يوجد سيناريوهات تسمح بالاختيار وانتقاء الأفكار التي تناقش قضايا مهمة ومن بينها قضايا المرأة أو الرجولة الإيجابية”.
أما بالنسبة لسبل ووسائل تعزيز الذكورية الإيجابية في الدراما اليمنية مستقبلًا، فإن الأمر يتطلب “شيئين مهمين لتتحول من التعبير عن أيديولوجيات وأفكار الممولين إلى التعبير عن القضايا الاجتماعية والوطنية المهمة”، كما يقول طالب لمنصتي 30.
وهذين الشيئين هما “أولًا: الإنتاج المستقل والتمويل غير المرتبط بالأطراف الدينية. وثانيًا: تشجيع وتطوير كتابة السيناريو ودعم الكُتاب والمخرجين الشباب المغمورين”.
لا يوجد تعليقات
شكرا على هاذا الاستبيان