تبدو هذه النسبة مرتفعة جداً، ومع ذلك فهي لا تُوصَّف بدقة مستوى البطالة المتعدد في اليمن.
تعتمد الجهات التي تقوم بعملية مسوح إحصائية لحالة البطالة في اليمن على التعريف الشائع الذي يُوصِف “من هو العاطل؟”؛ أي ذلك الشخص الذي لم يستطع الحصول على عملٍ هو قادرٌ عليه وراغبٌ فيه.
غير أن هذا التحديد لمن هو العاطل، واشتراط أن يكون “قادراً وراغباً” سيؤدي إلى تجاهل فئات كثيرة وعدم إدراجها في قائمة العاطلين نظراً لأن هذه الفئات تعيش حالة عطالة مستدامة بفعل الأعراف والتقاليد والقواعد الاجتماعية المحلية الصارمة. فمثلاً النساء، ومع إن غالبيتهم لا يعملن عدا عن الأعمال المنزليّة التقليدية التي لا تُدر أي دخل، أو دخل زهيد في أحسن الأحوال، إلا أنهن في العادة لا يؤخذن في الحسبان عند القيام بعملية مسح لنسبة العاطلين في اليمن. هذه الأعداد المهولة من النساء الممنوعات أو غير القادرات على العمل تعني أيضاً، حين ننظر إليها من وجهة نظر شاملة للبطالة، أن المُعيل، وفي العادة يكون الأب أو الزوج أو الابن، سيسقط من حسبان إحصائيات البطالة عدد كبير من أفراد أسرته بمجرد حصوله على عمل، وعند فقدانه لمصدر دخله الوحيد سيُعَد في التقارير الإحصائية العاطل الوحيد، وفي الحقيقية لديه في بيته جيشٌ من العاطلين (واضعين في الاعتبار أن اليمن من أكثر البلدان العالمية ارتفاعاً في معدلات الخصوبة). ولعل التقارير الأممية التي تحدثت عن نسبة الفقر وإعداد السكان الذين باتوا يفتقدون للأمن الغذائي توضح بطريقة غير مباشرة حجم المشكلة في اليمن، وتكشف قصور المسوح الإحصائية والتحليلات التي تتناول نسبة البطالة في اليمن عن الإحاطة الدقيقة بحجمها الطبيعي، وبأشكالها وبجوانبها المتعددة.
هناك ظواهر أخرى نشأت أثناء الحرب، فمثلاً بات هناك الكثير من المعيلين يشتغلون في وظائف لا علاقة لها بمؤهلاتهم وكفاءاتهم وبأجورٍ زهيدةٍ جداً في سبيل إعالة أسرهم. هناك أيضاً ظاهرة “الموظف العاطل”، فأعداد كبيرة من الموظفين في القطاع العام باتوا يتقاضون رواتبهم من الحكومة دون أن يؤدوا في المقابل أي عمل نظراً لاستمرار إغلاق مرافقهم منذ الحرب أو لسوء إدارة تلك المرافق لاحقاً.
من الظواهر التي نشأت أثناء الحرب هي ظاهرة التشكيلات العسكرية التي انخرط فيها أعداد كبيرة من الشباب سواء تلك التشكيلات التي تدعمها الحكومة الشرعية ودول التحالف أو تلك التشكيلات التابعة لجماعة الحوثي وصالح. معظم هؤلاء الشباب لم يشغلوا أي وظيفة حكومية من سابق، وباتوا اليوم يتقاضون رواتباً نظير قيامهم بأدوار قتالية في الجبهات أو تأديتهم لواجبات أمنية. ولو قُدِّر لهذه الحرب أن تنتهي، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب سيتحولون إلى عاطلين عن العمل في حال عدم تمكن الحكومة القادمة من استيعابهم في المؤسستين العسكرية والأمنية.
إذا أعدنا قراءة هذه الظواهر التي تكونت أثناء الحرب على ضوء مفهوم البطالة الشائع؛ ظاهرة الموظف العاطل الذي يتقاضى راتباً لا يؤدي واجباته ومهامه الوظيفية، وتلك الوظائف التي طرأت أثناء فترة الحرب، وعلى هامش أوضاعها المزرية، ووضعنا في اعتبارنا شروط القدرة والرغبة وضمان استمرار الوظيفة، فإن الحالة اليمنية تستدعي وجود نظرة شاملة لمشكلة البطالة في اليمن تتجاوز التحديد التقليدي للمشكلة في الأوضاع العادية.
أخيراً هناك مستوى آخر للبطالة، مستوى يتجاوز الأوضاع المحلية، فالإجراءات الحكومية المتشددة والمتعسفة ضد العمالة في دول الخليج، وفي السعودية تحديداً، تُنذر بكارثة كبيرة في المستقبل القريب، وتُهدد مئات الآلاف من العمال اليمنيين بفقدان مصادر دخولهم وبعودتهم إلى الداخل في ظل أوضاع اقتصادية في منتهى السوء، وهذا يعني إحالتهم إلى عطالة مستدامة!.
لا شك أن البطالة ستصبح المشكلة الأبرز في اليمن على المدى المنظور، ونظراً لكل هذه الأسباب، ولظروف الحرب، وحالة الخراب والدمار التي طالت كل شيء، ينبغي إعادة دراسة مشكلة البطالة في اليمن بصورةٍ أعمق وأشمل، وتحديدها على ضوء شروط وحيثيات ومقتضيات الحالة المحلية، لإدراكها ولإدراك آثاراها بصورةٍ دقيقة وشاملة.