الاقتصادي وخبير السياسات العامة (باول كوليير) طور نموذجاً بسيطاً ومفيداً في كتابه “البلايين التي في القاع”، عن “المصائد” التي تعيق تطور الشعوب الأفقر في العالم. إن أخطر مصيدة تمسك بخناق الأمم الفقيرة وتشدها لقاع الفقر والجهل والمرض هي مصيدة “الصراع”، فثلاثة أرباع البلدان الأفقر متورطة في حروب أهلية أو صراعات سياسية وطائفية طاحنة.
حدد كوليير ثلاثة عوامل تجعل أي بلد أكثر عرضة للوقوع في مصيدة الحروب الأهلية: (دخل منخفض، ونمو بطيء، والاعتماد على مصدر طبيعي واحد للدخل). الدخل المنخفض يعني الفقر، والنمو البطيء يعني غياب الأمل، أما وجود مصدر طبيعي وحيد ذو قيمة عالية (النفط على سبيل المثال) فيلعب دوراً مزدوجاً في التحفيز للحرب، وفي تمويلها واستمرارها فيما بعد.
لسنا بحاجة للتأكيد أن العوامل الثلاثة موجودة في الحالة اليمنية (دخل منخفض لأفقر بلد في المنطقة العربية جعل 40% من السكان تحت خط الفقر قبل الحرب، ونمو بطيء لم يتعد 1.08%، وصراع شديد على النفط الذي كان يشكل 75% من دخل الحكومة، و63% من إجمالي صادرات البلاد، و30% من الناتج المحلي الإجمالي). حالياً صار النفط كلياً في صف الحكومة المعترف بها دولياً، بينما فقد تحالف الحوثي صالح سيطرته على النفط لأول مرة منذ بدء استكشاف النفط. لكن السوق السوداء للمشتقات النفطية التي يستوردها تجار الانقلابيين من تجار الشرعية لا تزال تشكل المورد الأهم للتمويل.
هذه العوامل المساعدة على اشتعال الحرب هي نفسها تقريباً التي تجعل الحرب الأهلية طويلة ومتجددة. كلما كان البلد أفقر عند بداية الحرب كلما استمرت الحرب الأهلية لمدة أطول. الفقر والحرب تعني نسبة متزايدة من البطالة تمكن أمراء الحرب من تجنيد المزيد من المقاتلين لاستمرار القتال. الشباب والصغار هم المورد الأسهل والأرخص للحروب الأهلية الفقيرة.
ولأن الحرب تدمر المؤسسات الاقتصادية وفرص العمل تتحول الحرب إلى مصيدة: الحرب تدمر الأعمال وتحول العمال والموظفين إلى مقاتلين يقومون بدورهم بتدمير المزيد وتحويل المزيد من العمال والموظفين والمزارعين إلى مقاتلين.
تخلق الحروب الأهلية جماعات مصالح تعرف كيف تبلي جيداً وتحول الحرب لفرص استثمارية عالية الربحية، وهذا يدفع المتحاربين إلى تفضيل الاستمرار في حرب واضحة بدل الانتقال إلى سلام غامض لا تتضح فيه مواقع ومراكز القوى وأساليب الصراع الجديدة. (هذا هو سبب تعثر المفاوضات اليمنية كلما ظهر بصيص أمل لتقدمها).
متوسط مدة الحرب الأهلية طويل مقارنة بمدة الحروب بين الدول (6 أشهر مقابل 5 سنوات للحروب الأهلية). لكن المشكلة أن 50% من الدول التي عاشت حروباً أهلية تكررت عندها الحروب أكثر من مرة خلال مدة وجيزة (خمس سنوات كمتوسط).
لكن الأسوأ من ذلك أن التعافي من آثار الحرب ليس سهلاً ولا بسيطاً، فاليمن سيحتاج عشر سنوات على الأقل للتخلص من آثار الدمار والأمرا ض والانهيار الاقتصادي، وبعد ذلك يحتاج لعقد آخر ليعود إلى حالته ما قبل الحرب. بلد مثل زائير سيحتاج خمسين عاماً للعودة إلى نفس مستواه الاقتصادي في الستينات!.
هنالك دعم خارجي لا يستهان به يزود محركات الحرب بالوقود اللازم كلما استنفندت مخزونها. تدويل الحرب الأهلية اليمنية وتحويلها إلى حلقة في الصراع السعودي الإيراني عامل إضافي لإطالة أمد الحرب، خاصة بعد سقوط حلب مما يجعل اليمن تعويضاً ضرورياً لدول الخليج مهما كان الثمن الإنساني الذي سيدفعه اليمني المطحون.
هذه هي الحرب الأهلية الخامسة في اليمن المعاصر بعد الحرب الملكية الجمهورية (1962- 1970) ، وحرب المناطق الوسطى (1978-1983)، والحرب الأهلية الدموية والخاطفة في الجنوب (يناير 1986)، وحرب (1994). وكما هو واضح شهدت اليمن حرباً أهلية كل 8 سنوات، بعضها انتهي في 10 أيام، وبعضها في ثلاثة أشهر، وبعضها في 8 سنوات. لكن هذه الحرب المزدوجة (حرب أهلية وحرب بالوكالة أيضاً) هي الأشمل والأوسع والأخطر في تاريخ اليمن الحديث كله.
هي حرب طويلة إذن، لكن هذا لا يعني أن الأمل مفقود في إيقافها. لكن المشكلة أن عوامل إيقاف الحرب لم تعد داخلية بل صارت تتعلق بباقة من التدخلات الدولية الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية لإخراج اليمن من مصيدة الحرب الأهلية.
- مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.