لم تكن حضرموت تشكل أطماعاً سياسيةً بالنسبة إلى موقعها الجغرافي فحسب، بل امتازت بتنوع ثرواتها، وجمال وديانها وسواحلها، ومعالمها الأثرية، إضافة إلى حضاراتها القديمة. حضرموت هي إحدى المدن العربية التي تقع جنوب شبة الجزيرة العربية، تلك البقعة الجغرافية التي أدهشت العين الأوروبية، فلم تكتف بالتوثيق عبر التصوير الفوتوغرافي أو التدوين في كتب التاريخ، بل امتد الاهتمام إلى التوثيق القصصي وتوظيف فن الرواية لهذا الغرض، فقد وثقوا رحلاتهم وترحالهم بأسلوب أدبي، وبوصف قصصي جميل.. فالصور قد تتعرض للتلف والضياع إلا أن الروايات الأدبية محببة لشريحة كبيرة من القراء ويتبادلونها باهتمام وتبقى خالدة في المكتبات وفي ذاكرة الأدب، وتنتشر بين الجميع.
لذا خَلّد الباحثون والكتّاب الاوروبيين ذِكرَ حضرموت في كتاباتهم، من خلال مرورهم بهذه المساحة الجغرافية من العالم، وما رأوه من عادات وتقاليد، ومعالم أثرية، وابدعوا في توثيق الحياة الحضرمية آنذاك، ومن المُلاحظ أن الزائرَ منهم إلى بلدٍ ما، يُعرّي واقع المجتمع في توثيقه دون تحيّز، ويقدم وصفاً دقيقاً عن الحياة اليومية التي كان يعيشها سكان المنطقة.
في هذا السياق كتب الدكتور سعيد الجريري -كاتب وأديب من حضرموت يقيم في هولندا- مقالاً بعنوان (نسر حضرموت رواية للفتيان في الأدب الهولندي):”رواية ضمن سلسلة (ليكس كوستر) الهولندية للفتيان، عنوانها (نسر حضرموت) -1958- للكاتب يوهان خو تفريد تيمه وهي مندرجة في أدب المغامرات حول العالم.” (1)
ويستعرض الجريري ملخص الرواية: “في فصول الرواية تصوير واقعي لمشاهد الحياة اليومية وخصائص المكان عبر الزمان، بصحبة شخصيات حضرمية بأسمائها المحلية، في سياقات تتخللها مفردات من المعجم العربي والحضرمي. فهناك تفاصيل دقيقة ومشاهد بديعة منها ما يديره السارد، ومنها ما ينبث في حوار بين الشخصيات، كمشهد الاندهاش لدى رؤية كور سيبان العظيم على مسافة، أو لحظة الاستغراق العجائبي وهم يقتربون رويداً رويداً من مدينة شبام التي تبدو مبانيها الطينية الشاهقة -في الصحراء- كأنها مغطاة بالثلوج!.”(2)
وجاء في مدخل الرواية كما يصف الجريري: “جلس الثلاثة على سجادة عربية جميلة في غرفة كبيرة باردة في بيت قديم في زنجبار، يعود للشيخ مصطفى والد عزان. كانوا جالسين على الأرض على الطريقة العربية التقليدية، التي من الواضح أنها لا تتطلب أي جهد من عزان ومكوندي، لكنها تبدو بالنسبة لليكس ذي السيقان الطويلة جدا كما لو كانت حركة بهلوانية.” (3)
في هذه البداية المشوقة والدقيقة في آن، الكثير من المعاني، والوصف الدقيق للمكان والإنسان، حيث ذكر ووصف السجّاد الذي يجلس عليه رفاق الرحلة، لما للعربي في تلك الحقبة الزمنية من تفاخر بعروبته وصناعاته، وكذا الوصف لوضعية الجلوس وفقاً للطريقة العربية التقليدية، وهي الطريقة السائدة لدى سكان حضرموت وبعض مناطق اليمن، كما أنها تعتبر من عادات المجالس في تلك الحقبة من الزمن، وتتّخذُ غالباً أثناء تناول الطعام.
كما أن الكاتب الروائي بول تورداي (PAUL TORDAY) بريطاني الجنسية، قام بتأليف أول رواية له بعنوان صيد السلمون في اليمن (Salmon Fishing in the Yemen) حيث بدأ الكتابة وهو في الخمسينات من عمره، ثم كتب بعدها ست روايات أخرى، إلا أن هذه الرواية لاقت صدى واسع؛ لما تحمله من عنوان يثير الفضول لدى القارئ، سيما اختياره للسلمون وهو السمك الذي يعيش في أعماق المحيطات. كما عُرضَت أحداث الرواية عام 2011م كفيلم سينمائي، حيث تم تصوير أحداث الفيلم في دولة المغرب، واحتل حينها الفيلم المرتبة السابعة في شباك تذاكر قاعات السينما بأمريكا.
وقد استعرض الكاتب جون والش (JOAN WALSH) الرواية في صحيفة ذي إندبندنت (the Independent) وهي صحيفة إخبارية بريطانية على الإنترنت:” في قلب الرواية الأولى لبول تورداي يوجد بطل غير متوقع ، الدكتور ألفريد جونز ، موظف حكومي متواضع في المركز الوطني للتميز في مصايد الأسماك. عالم خجول ، يميل إلى البقاء في المنزل باحثاً في عادات التزاوج لبلح البحر في المياه العذبة، أكثر من التساؤل عن سبب تحول زواجه إلى تجويف بلا حب، ولماذا استغلت زوجته ماري الخبيرة المالية الفرصة للعمل في الخارج، عندما عرض حاكم يمني ثري ، الشيخ محمد ، تمويل مخطط لملء وديان أراضيه الصحراوية بسمك السلمون الاسكتلندي ، وهي الفكرة التي رفضها جونز واعتبرها سخيفة.”(4)
ويُنهي الكاتب استعراضه للرواية: “هذا كتاب ذو سحر كبير ، غرفة صدى لعشرات الأصوات المختلفة ببراعة من باطنها. كما أنها قديمة الطراز بشكل مذهل.” (5)
وتدور أحداث الرواية حول شيخ يمني -شيخ قَبَلي وليس شيخ دين- اسمه محمد يريد جلب اسماك السلمون -التي كان يحبها- إلى بلاده، ويستعين الشيخ لتنفيذ رغبته بالمركز الوطني لصيد الأسماك في بريطانيا. إلا أن عالِم الأسماك ألفرد جونز يرفض الفكرة التي قدمها الشيخ بحكم عدم قابليتها للتنفيذ، حيث تقوم على بناء سد كبير في منطقة لا يوجد بها بحار ولا أنهار بل وادي يقع في حضرموت يسمى وادي العين ويعتمد على مياه الأمطار، في حين أن الأسماك المُستَجلبة تعيش في الأنهار الاسكتلندية!. هذا ما جعل ألفرد يؤكد استحالة الفكرة، إلا أن الحكومة البريطانية استغلت الطلب للتظليل على الشارع العام حول الاحداث السياسية والعمليات العسكرية التي تقوم بها في أفغانستان والعراق آنذاك، حيث كان المستشار السياسي لرئيس الوزراء يبحث عن خبر أو مشروع مفرح في الشرق الأوسط، وعندما عَلِمَ عن مشروع صيد السلمون في اليمن، والذي يسعى أحد الاثرياء اليمنيين لتمويله، تدخلت حينها الحكومة لتجبر المركز الوطني للصيد على التعاون مع ذلك الشيخ. عندها وجد ألفرد نفسه مضطرا للتعاون مع الشيخ اليمني.
وعلى الرغم من عدم اطلاعي على الرواية، إلا أني شاهدت الفيلم الذي يحمل فكرتها، والذي لا يختلف عن الرواية كثيراً حسب رأي القراء. فقد امتازت الفكرة بالدمج بين السياسة والرومانسية والتراجيديا، والتنوع في الأسلوب، علاوة على تطرق الكاتب إلى وجود تنظيم القاعدة ودورهم في اليمن، حيث يقومون من خلال مشاهد الفيلم بمحاولتين لاغتيال الشيخ محمد، يفشلون في الأولى وينجحون في الثانية في استهداف الشيخ ورئيس الوزراء جاي فينت.
إن مثل هذه الاعمال الأدبية تمثل إرثاً أدبياً وثقافياً، ونافذة تاريخية إلى أعماق حضرموت، ومن المؤسف اهمالها وعدم تناولها وترجمتها، والاكتفاء بكتب التاريخ، في حين أن الأدب الروائي لا يختلف كثيرا عن الوثائق التاريخية، مع ميزة السرد القصصي المشوّق للوقائع والأحداث التاريخية، مما يشكل فرصة كبيرة لتناوله وعرضه ووصوله إلى شريحة كبيرة من القراء -وخاصة الشباب- للتعريف به واطلاع القارئ على التاريخ عبر نافذة الرواية ليعيش في خضم تلك الاحداث، وجعل الباب مفتوحاً للتعمق فيه والبحث واكتشاف أدق التفاصيل، والتوغل في البيئة والإنسان والتعرف عليهما من زاوية أخرى. يقول الدكتور الكاتب عبدالله الغذامي:(التاريخ تسجيل للمتن، والرواية تاريخ الهامش).
(1)(2)(3) سعيد الجريري، نسر حضرموت رواية للفتيان في الأدب الهولندي، مجلة حضرموت الثقافية، العدد21 ، سبتمبر 2021، صفحة 104.
(4)(5) جون والش (JOAN WALSH)، صيد سمك السلمون في اليمن، صحيفة ذي إندبندنت (the Independent) الالكترونية
https://www.independent.co.uk/arts-entertainment/books/reviews/salmon-fishing-in-the-yemen-by-paul-torday-435562.html
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).