للأدب إسهاماته المختلفة في الحياة، سواءً بوصفها، أو بتجميلها، أو بمحاولة تغييرها، وكذلك يساهم بشكل كبير في تدوين ورصد المراحل الاجتماعية، لا سيّما السرد، والذي من خلاله يستطيع السارد أن يسهب في الكتابة والوصف. الأمر ليس مقتصراً على مرحلة ما، أو مكان محدّد، من يقرأ في الأدب الروسي سيجد في روايات “دوستوفيسكي وتولستوي” وقصص “تشيخوف” على سبيل المثال رصداً عميقاً لمرحلتهم، كذلك في رواية “الساعة الخامسة والعشرون” لـ(قسطنطين جورجيو) التي رصدت بشاعة آثار الحروب وتهميش الإنسان، ورواية عداء الطائرة الورقية لخالد حسيني، التي عرضت مرحلة الحروب الأهلية والتدخل الخارجي والانقسامات في مرحلة ما في أفغانستان، هذه إحدى وظائف الأدب السامية، التي أجاد كتّاب السرد تقديمها ببراعة. ربما لم يكن في حضرموت الكثير من المآسي، والكثير من السرّاد لكن يوجد فيها من خلّد مراحل سابقة بالسرد، خصوصا القصة القصيرة.
وهنا رغبت بأن أطرح تصوّري بخصوص النص السردي الذي قد يكون نشاطاً اجتماعياً على خلاف كونه نشاطا لغوياً وأدبياً، فالعلاقة المتينة بين الأدب والحياة الواقعية والمراحل الزمنية جلية في رفوف المكتبات المكتظة بالكتب، ولعله نفس ما كان يراه “سانت بوف” بأن النص وخالقه ليست كيانات مستقلة بذاتها، بل أنها نتيجة لقوانين مجتمعية. وأعتقد بأن تلك القوانين استطاعت أن تسخّر الأدباء الحضارم أن يدوّنوها، عبر القصة القصيرة، التي لم يكن دورها وصفا لمرحلة ما فقط، بل حاول من خلالها كتاب السرد إحداث تغييراً ما، وطرح الأفكار التي كانت موجودة في بعض الدول العربية لكنها لم تكن موجودة محلياً، كما حاولوا أيضاً من خلال ما كتبوا على إعادة صياغة الذائقة العامة، بما يشبه إعداد وتهيئة المجتمع لكي يكون متقبّلاً لأفكار لم يعتد على وجودها، ولم يعرف عنها إلا بالقراءة.
لعب كتاب السرد دوراً قد يكون هامًا في وصف الأحوال الاجتماعية بأدق تفاصيلها، ولكي يكون الأمر منطقيا سأستشهد بأسماء قطعت ذلك الطريق، مثل: (سعيد عوض باوزير، يحيى عبود بن يحيى، فائز محمد عبدالعزيز، إبراهيم محمد الكاف، أحمد سعيد علي عباد، حسين عبدالرحمن السقاف، محمد عبدالقادر بامطرف، سلامة عبدالقادر بامطرف، وغيرهم).. ولهذا أرى بأن السرد يعتبر أداة مؤثرة في صنع التغيير، وبناء المجتمع، وأن يكون إحدى طرق النضال في مواجهة مساوئ الماضي المتراكمة، كالطبقية مثلاً.
ربما لم تكن الأمثلة في حضرموت كثيرة، ولم يكن الكم الأدبي كبيراً، وربما ذلك يعود لغياب الناشر، فبالطبع سيختلف الأمر بالنسبة لنتاج الأدباء في حال وجود ناشر لا يحتاج لقطع مسافات طويلة من أجله، ولا لبذل الجهود المستحيلة، لكن الكيف كان موجوداً في خطابات السراد الذي نشروا عبر المجلات والصحف منذ مطلع ثلاثينات القرن الماضي (سواء في مجلة النهضة الحضرمية أو مجلة الإخاء، ومجلة التوفيق، كذلك في صحف الطليعة، والرائد، والرأي العام) وقد اتسمت معظم خطاباتهم وأفكارهم بالمباشرة دون تورية، مع إن تلك المرحلة كانت مليئة بالقلق لمرورها بمنعطفات وتغييرات اجتماعية عدة.
من ضمن تلك النصوص السردية الخالدة قصة “البعل الهرم” التي نشرت في عام ١٩٣٣م في مجلة النهضة الصادرة من سنغافورة لقاص حضرمي تحت اسم مستعار (ج.ع)، وفي حضرموت حيث كانت البداية من مجلة الإخاء الصادرة من تريم، أستحضر الملحمة السردية “الغناء” وقد كانت طويلة، بل أقرب إلى أن تكون رواية عاطفية، كشف فيها الكاتب الذي رمز لأسمه بـ (س.م.ع) العادات والتقاليد الحضرمية في تريم آنذاك.
ومن أبرز كتاب السرد القصصي الحضرمي الذي كان لنتاجهم بعداً اجتماعياً..
ـ عبد القادر بن سالم حسان: وله من النصوص السردية العديد، أهمها (تراث الآباء).
ـ عبدالرحمن عبد الكريم الملاحي: له قصة (سلمى يا منية النفس) و( نيكيتا أيوب) و (صخرة الحقيقة) و (عواصف الخريف) و (الحنان المفقود).
ـ عبدالله سالم باوزير: صدر له عدة مجموعات قصصية, كان أولها (الرمال الذهبية) وقال عنه الناقد محمد علي يحيى: “السرد عند باوزير, محاولة لتحرير ذات السارد من وطأة الواقع الذي يعانيه, وخلاص من آلامه و أحلامه الإنسانية البسيطة”
ـ صالح سعيد باعامر: صدرت له عدة مجموعات قصصية منها: (دهوم المشقاصي) و( الاحتمالات المغايرة) أما سرده الروائي فقد كان في رواية (المكلا) و(الصمصام) و(إنه البحر).
ـ د/ طه حسين الحضرمي: من نتاجه السردي المنشور قصص (بلقيس مسكينة) و(بلقيس في لحظة حب) و (خمرة وحسرة) و (ملامح ضائعة في هضبة أفريقيا) و (سطور على حواشي الشاطئ) و(الغصن العاري) و (دمتم).
ـ فيصل عبدالله بلفاس الكثيري: من أوائل قصصه المنشورة (ذكريات أم صالح) و(الفتوى).
وأعتبر نفسي محظوظاً إذ تشرفت بقراءة عدد من مخطوطات قصصية له لم تنشر إلى الآن؛ بعد أن وقعته عليها مصادفة أثناء سعيي في جمع مادة هذا المقال الذي ساعدني فيه أستاذي الدكتور / أحمد هادي باحارثة، ومؤلفه الثري الموسوم (القصة القصيرة في حضرموت).
أعتقد بأن القارئ الدقيق لكتاب تلك المرحلة لن يغفل عن الدور الاجتماعي الذي سطروه في مخطوطاتهم، فالسراد الحضارم على قلّتهم وندرة نتاجهم السردي باعتقادي, بل وندرة النقد الموجه لذلك النتاج, لم يكونوا بمنأى عن قضاياهم الاجتماعية أدبيا، بل لعبوا دوراً حقيقياً في إبرازها وتخليدها، ومحاولة الارتقاء بها، لعلمهم يقيناً بأن السرد أداة مهمة للتغيير.
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي الثقافي والفنون (آفاق).