يُقال إن الدراما مرآة المجتمع، إلا أن الدراما اليمنية غيّبت الدور الحقيقي للمرأة الريفية في التنمية والبقاء، حيث تُظهرها على أنها ضعيفة، مستعبدة، ولا يُؤخذ برأيها، بينما الحقيقة أنها تشكّل عنصر دعم للأسرة وشريكًا فاعلًا في الإنتاج، هذا ما أكدته لبنى عبد الرقيب، وهي مواطنة من ريف تعز، إذ تقول، “بالنسبة لي كامرأة ريفية أعيش في مجتمع ريفي، الكثير مما تتطرق إليه الدراما اليمنية لا يمتّ لواقعنا بصلة، ما تُظهره الدراما عن المرأة الريفية هو أنها خاضعة لسلطة الرجل، سواءً كان أبًا أو أخًا أو زوجًا، ولا يُؤخذ بقرارها، وغالبًا ما تُصور على أنها امرأة تلتقي حبيبها خلسة بعيدًا عن أعين الناس”.
تتابع لبنى حديثها، “المرأة الريفية في بلادنا تُعد عمود البيت، امرأة عاملة وناجحة، وتستطيع أن تدير بيتها وأرضها وعملها بشكل سلس ومتوازن، دون أن يشوب عملها أي قصور. نحن نفتخر بأنفسنا وبأمهاتنا، اللواتي استقينا منهن حب العمل والحياة والإرادة القوية”.
ما وراء التهميش
يقول المخرج التلفزيوني أحمد الجرو، إن الدراما اليمنية تُظهر المرأة الريفية غالبًا في صورة نمطية تقليدية، تركز على كونها ضحيةً للقهر المجتمعي، أو أنها شخصية هامشية تدور في فلك الرجل، وتفتقر للوعي أو القوة. ويرى أن من أبرز أسباب هذا التناول النمطي هو غياب الكُتّاب والمخرجين من خلفيات ريفية، حيث إن معظم الإنتاج الدرامي يتم في المدن ومن منظور مدني، ولا يحمل تجارب معاشة من داخل الريف نفسه، مما يؤدي إلى تقديم صورة سطحية أو مشوهة.
ويتطرق الجرو إلى سبب آخر، وهو أن الدراما اليمنية تتأثر كثيرًا بالقوالب التقليدية للدراما العربية، التي تربط المرأة الريفية بالجهل والخضوع والفقر، دون تطوير سرديات جديدة تعكس واقع المرأة الحقيقي.
ويضيف في حديثه لـ منصتي 30، “إن ضعف التوثيق والتاريخ المحلي سبب آخر وراء إظهار الدراما اليمنية للمرأة بصورة نمطية، حيث لا توجد دراسات أو مواد موثقة تُظهر دور المرأة الريفية كقوة إنتاجية أو اجتماعية، مما يجعل المبدعين يعتمدون على الصور النمطية السائدة”.
ويتابع الجر حديثه، “كثير من صنّاع الدراما يتجنبون إظهار المرأة الريفية بدور قوي ومستقل، خوفًا من ردود فعل مجتمعية محافظة أو من الرقابة الإعلامية. غالبًا ما تُموّل الأعمال الدرامية من جهات غير معنية بتمكين المرأة أو توسيع حضورها، مما يجعل المحتوى موجّهًا نحو الإثارة أو المحافظة على الوضع القائم”.
التأثير على الوعي المجتمعي
تقول الأكاديمية في كلية الإعلام بجامعة صنعاء، الدكتورة سامية الأغبري، إن الإعلام يشوّه صورة المرأة ويُنتج وعيًا مجتمعيًا ناقصًا تجاهها، مما يُكرّس صورة سلبية عنها بأنها ضعيفة وغير قادرة، وتشدد على دور الإعلام في تقديم نماذج ناجحة من النساء الريفيات، لا أن يركّز فقط على وضعهن الصعب.
ويوافقها في الرأي الكاتب موسى هبة، حيث يقول “إن تصوير المرأة الريفية في الدراما اليمنية بوصفها كائنًا مضطهدًا وضعيفًا، وتجاهل دورها الحيوي في حياة المجتمع الريفي، لا يُعد مجرد انحياز سردي، بل يعكس خللًا عميقًا في وظيفة الإعلام ذاته. هذه الصورة المتكررة لا تمثل الواقع بقدر ما تفرض عليه قوالب جاهزة تعيد إنتاج مفاهيم خاطئة حول مكانة المرأة، وتُرسّخ في الوعي الجمعي تصوّرات تحدّ من حضورها وفاعليتها”.
ويضيف هبة، “المرأة الريفية في حقيقتها ليست مجرد ضحية كما تصورها الشاشات، إنها أساس الحياة اليومية في الريف، تعمل في الزراعة، تدير شؤون المنزل، وتُربّي الأجيال في ظروف قاسية. ومع ذلك، تختزلها الدراما في شخصية خاضعة، تابعة، وعديمة الحيلة. هذا التناول السطحي لا يُغيّب إنجازاتها فحسب، بل يُضعف من احترام المجتمع لدورها الحقيقي، ويكرّس نظرة دونية تُهمّش حضورها في الحقلين الأسري والعام على حد سواء”.
ويتابع حديثه: “مثل هذا الخطاب الإعلامي لا ينعكس سلبًا على المتلقي فحسب، بل يطال المرأة نفسها، فعندما لا ترى نموذجًا إيجابيًا يُشبهها في الإعلام، وتُحاصر بصور الضعف والانكسار، فإن ذلك ينعكس على وعيها الذاتي، ويقوّض ثقتها بنفسها، ويجعلها أكثر قابلية لقبول الظلم والتهميش باعتباره قدرًا لا يمكن تجاوزه. وهكذا يتحول الإعلام من أداة تمكين إلى وسيلة إقصاء صامتة”.
ويؤكد هبة أن التأثير لا يقتصر على الجانب النفسي فقط، بل يمتد ليؤثر في صنع القرار والسياسات العامة. إذ إن الصورة السائدة في الإعلام تُسهم في تحديد أولويات المجتمع والدولة، وعندما تُقدّم المرأة الريفية ككائن غير منتج أو غير مؤثر، تقلّ فرصها في أن تُدرج ضمن برامج دعم أو مشاريع تنمية، وتُهمّش قضاياها التعليمية والصحية والاقتصادية، لأنها ببساطة ليست مرئية بما يكفي في خطاب الإعلام الرسمي أو الشعبي.
ماذا يجب على الدراما؟
تقول الممثلة نجوى الجبلي إن المرأة الريفية تواجه العديد من التحديات بعزيمة وإصرار، كما أنها شريك فاعل في تحقيق الأمن الغذائي، حيث تمارس الكثير من المهام في الحقل والمنزل، وتربية الأبناء في ظل اغتراب الأب. وهذا ما يجب أن تُظهره الدراما اليمنية عنها.
وترى الجبلي أنه من المهم أن تُبرز الدراما نجاحات وبطولات المرأة الريفية، وأن تُظهر قدرتها على الصبر والتحمل، وأن تتوقف عن تقديمها بصورة الضعيفة والمستعبدة، وأن تُقدّمها كما هي في الواقع: امرأة قوية لا تُكسر.
نموذج مُضيء
في مسلسل غُربة البن، تجسّد شخصية “نورية” التي أدّتها الفنانة شروق محمد صورة ناصعة للمرأة اليمنية المُكافحة، التي وقفت في وجه الغياب والخِذلان وتحديات المجتمع، دون أن تتراجع أو تنكسر، عاشت سنواتٍ طويلة في انتظار زوجها الغائب، دون أن تسمح لليأس بالتسلل إلى قلبها. قاومت ضغوط الأهل والناس الذين حاولوا تزويجها من جديد، لكنها تمسّكت بوفائها، ورفضت أن تستبدل غياب الشريك بالتخلي عن قيمها. ظلّت مُخلِصة رغم مرور أكثر من خمسة وعشرين عامًا.
تحمّلت عبءَ التربية وحدها، فأنشأت ابنها “نشوان” على الرجولة والصدق والعزة، علّمته أن الكرامة لا تُباع، وأن الأم يمكن أن تكون أبًا حين يغيب الأب. كانت تكدّ وتكافح، وتُخفي وجعها كي لا يرى ابنها ضعفها، وتواجه الحياة بقلب امرأة تحمل في داخلها جيلًا بأكمله.
وعندما عاد زوجها مشلولًا، استقبلته كما لو لم يغب يومًا. لم تُعاتبه، ولم تُذكّره بما مرّ، بل احتضنته بحنان امرأة انتصرت بصبرها لا بصوتها.
بهذا الدور، قدّم المسلسل نموذجًا واقعيًا للمرأة اليمنية التي لا تهزمها الغربة، ولا تكسرها الوحدة، بل تصنع من كل ذلك دربًا للنضال اليومي من أجل أسرتها ووطنها. ويُعد هذا العمل من الأعمال الدرامية اليمنية النادرة التي احترمت دور المرأة، وقدّمتها بصورة إنسانية عميقة تُجسد مكانتها وتُبرز نضالها بصمت ووعي مجتمعي نادر الحضور في الدراما المحلية.
صحيح ما تطرق له المخرج الجرو عين الصواب واتفق على ما قيل