في ظل الظروف الصعبة التي أفرزتها الحرب، تنزوي “يسرى عبده” كالغصن الكسير، بل تحلق بجناحيها المجروحين لتكابد هموم الحياة بكاهل متضائل أثقلته سنوات الصراع وتداعياتها التي أكلت أخضر عمرها، ويابس سنين عطائها.
فنراها تصارع الظروف بدمعاتها المحروقة على الخدود الغائرة، وتحمل بين ذراعيها طفلتها لتبحث عن قيمة العلاج في ظل الأوبئة المنتشرة مقابل بيعها الجرائد صباح كل يوم في وطن مليء بالقهر والحياة الضنكاء.
يسرى (29عاماً) فتاة وجدت نفسها في مواجهة قاسية مع ظروف الحياة، في مخيمات النزوح هرباً من هول الحرب لتصطدم بالمدينة المكتظة بالفقر والغلاء والأوبئة القاتلة.
مبكراً تصل يسرى عبده برفقة طفلتها إلى جولة كالتكس في مديرية المنصورة بمحافظة عدن جنوبي اليمن، لتفترش الرصيف وتبيع للمارة وسائقي المركبات الجرائد الذين واظبوا على الشراء منها لسنوات ما بعد حرب 2015م.
كفاح وألم
يسرى امرأة مكافحة، وهي من أوائل النساء اللواتي اضطرتهن الظروف الاقتصادية وألم النزوح للتجوال وبيع الصحف، بدأت العمل في بيع الصحف منذ بعد حرب 2015م لكي توفر لقمة العيش والملبس لها ولأطفالها الصغار، في حين لم تعد هذه المهنة مقتصرة على الرجال بسبب الظروف القاتلة التي فرضتها الظروف وقساوة الحياة في عدن وما جاورها.
الحالة المعيشية الصعبة دفعت يسرى للخروج إلى الشارع لتوفير ما يسد رمقها ورمق أسرتها المكونة من ثلاث فتيات وولد، وكذا توفير إيجار المنزل الصغير الذي تقطنه في منطقة البساتين الشعبية شمالي المحافظة.
“أتمنى أكثر من وجبتين في اليوم”
تؤكد المرأة العشرينية وهي تقلب يديها أن مردود بيع الصحف لا يوفر لها ولأسرتها أكثر من وجبتين في اليوم، على خلاف مصاريف أطفالها التي تتحمل وحدها الإنفاق عليهم بعد انفصالها من زوجها وانقطاعه عن دفع اي مصاريف لهم.
تشير يسرى إلى أن كمية النسخ المباعة من الصحف مرتبطة بحسب الأخبار، فإذا كانت هناك أخبار مهمة يكون البيع أكثر ومستوى دخلها ملائم لمعيشتها.
وبملامح حزينة تقول: (ارتفاع أسعار الصحف من 100 إلى 200 ريال زاد الطين بلة، فعندما نبيع النسخة بمكسب 50 ريال، يتساءل المشتري من أين آتي بهذه الـ50؟ فأضطر أبيع مرات عديدة بسعر النسخة المقرر من الصحيفة “200 ريال” وذلك بسبب انعدام الفئات الأصغر للعملة اليمنية التي أصبحت أقل فئة موجودة منها هي100 ريال، المطبوعة مؤخراً.
غياب المساعدات
تضطر يسرى لاصطحاب طفلتيها معها حين تذهب ابنتها الكبرى إلى المدرسة، فلذلك لاتستطيع أن تشغل عملاً إضافياً إلى جانب بيعها للجرائد، كما أنها لا تتحصل على أي دعم من قبل أي منظمة أسوةً بغيرها من الذين يتحصلون على إعانات تحسن من مستوى دخلهم المعيشي والأسري.
تصف يسرى حالتها بهذا الجانب وتقول: “كثير من الناس يجدون مساعدات من قبل الكثير من المنظمات على عكسي تماماً، فأنا لسنوات عديدة وحتى الآن لا أملك سوى هذا الدخل اليومي البسيط من بيعي للجرائد لكي أعيل اسرتي وأوفر لهم لقمة العيش”.
حلم يتلاشى
لم يعد القادم يشغل تفكير يسرى، فقسوة الحاضر ومرارة العيش قتلت كل الأحلام لديها. يظل أملها في ابنتها الكبرى هي تلك النافذة التي تلوح من ذلك الأفق البعيد، فتضع يدها على رأس ابنتها وتقول بنبرات حزن يرافقه الأمل: “أملي في أن تكمل ابنتي دراستها الثانوية وتتأهب لدخول الجامعة هو هدفي الوحيد الآن، فحلمي كان في بداية مشواري تأسيس مكتبة صغيرة خاصة أو كشك لبيع الصحف والمجلات لم يتحقق حتى الآن بسبب قسوة الظروف، ولكن يظل أملي في ابنتي أن تحقق هذا الحلم وتتقدم إلى الأمام بعلمها وأنا سأقف إلى جانبها وسأصارع الظروف من أجلها ومن أجل إخوتها حتى آخر رمق لي، فأنا أهملوني المنظمات ولم يقدموا لي يد العون والمساعدة، فيد الله ممدوة ولن تنساني”.
تقول “منى البان” وهي باحثة في مؤسسة سيرش للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ومدير وحدة مكافحكة عمل الأطفال بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، أن”عمل المرأة في الظروف الحالية هو نوع من التحدي بعد أن وضعت حرب 2015م رحالها على عدن لتدمر كل شيء وتخلًف بذلك الفقر والتشرد لكثير من العائلات الذين وقعوا ضحيةً لها”.
وتضيف “لا أرى أي مشكلة بالنسبة لعمل المرأة كونها تقوم بالعمل بحثاً عن الرزق لسد حاجة أسرتها حتى وأنها في بعض الأحيان قد تتعرض لمضايقات جراء عملها في الشارع بسبب اختلاطها مع أشكال مختلفة من البشر، فتراها تصارع الظروف بحثاً عن الحياة الكريمة، فتقضي ساعات طويلة خارج المنزل لكي تعود لأبنائها بلقمة عيش تسد رمقهم”.
وتختتم البان حديثها قائلة “المرأة كائن ضعيف بحسب طبيعتها الجسمانية، وقد تتعرض للكثير من الانتهاكات بسبب خروجها للشارع للبحث عن فرصة عمل، لذلك على كافة المنظمات والجهات المعنية مد يد العون إلى النساء اللواتي يتجولن في الشوارع بحثاً عن عمل وذلك تحقيقاً لمبدأ المناصرة للمرأة والحفاظ على حقوقها وتوفير الأمان لها”.
تأثير الحرب على النساء
بحسب تقارير حديثة، فأن الحرب التي تشهدها اليمن منذ العام 2015م والتي أدت إلى الركود الإقتصادي قلصت فرص العمل بنسبة كبيرة، كما أثرت على النساء العاملات أكثر من الرجال.
حيث انخفضت عمالة الذكور بنسبة 11% بينما انخفضت عمالة الإناث بنسبة 28%.
ووفقاً لإستطلاع أجرته منظمة العمل الدولية، شاركت 6% فقط من النساء في القوى العاملة، بينما كانت 7% فقط من الوظائف تشغلها النساء عام 2013م، حيث تم ربط مستويات التعليم العالي بزيادة مشاركة النساء ضمن القوى العاملة، فهناك نسبة 62.1% من النساء الحاصلات على تعليم جامعي يشكلن جزءاً من العمالة في اليمن، مقارنة بـ 4.5% من الحاصلات على تعليم ابتدائي أو أقل.
وبينت إحصاءات المنظمة الدولية الصادرة عام 2019م أن من بين 293 ألف امرأة تم توظيفهن قبل اندلاع النزاع، كان حوالي النصف منهن يعملن في قطاع الزراعة إما كمنتجات ألبان وتربية حيوانية أو كمزارعات، بينما كان ثلثهن يعملن في قطاع الخدمات.