حينما يصبح القوت هو مصدر الموت ويصبح هو الحل الوحيد أمامك لتعيش لن تتردد في أن تتزود به خوفاً من الجوع. هكذا أجبرت أم وليد الأربعينية والتي تقطن في أحد شوارع مدينة صنعاء مع زوجها وخمسة من أطفالها، على أن تصحو كل يوم في السادسة صباحاً لتبحث في الشوارع عن كراتين وبلاستيك وبعض أعواد حطب لتعود بها إلى المنزل حتى تصنع طعاماً لها ولعائلتها بعد أن وجدت نفسها غير قادرة على تأمين قيمة أسطوانة الغاز التي وصلت قيمتها لعشرين ألف ر.ي في السوق السوداء على الرغم من المرض الذي يتسبب به الدخان المتصاعد أثناء حرق الكراتين والبلاستيك أثناء الطهو إلا أنه لا يوجد حل آخر أمام أم وليد وعائلتها فحتى الحطب أصبح سعره يوازي قيمة أسطوانة الغاز وبات معدوماً وغير متوفر دائماً.
خلال الأزمة الخانقة تقول أم وليد “فيني السكر وصدري بيوجعني لكن ماذا أفعل؟ الغاز غالي ومش متوفر حتى الحطب قده مع الأزمة سعره بيزداد وزوجي بدون معاش له أكثر من ست سنين بين أخرج أجمع كراتين ودباب بلاستيك وأحرقهن أفعل بهن خبز”. المسؤولية المتعارف عليها مجتمعياً بأن المرأة هي من يصنع الطعام هي ما جعلتها متصدرة في ملاقاة السموم التي تفتك بها.
“تحسس في الشعب الهوائية والتهابات في الصدر والرئة تنتج عن إحراق الحطب والكراتين واستخدامهن في الطهو” هكذا أكد الدكتور حمدي التركي اختصاصي أمراض الصدر والرئة أن “استنشاق دخان الحطب أو الكراتين عند الاحتراق ذو حرارة عالية ينتج الغازات السمية من صور الكربون إذ أن الجسم يتعرض لغاز سام وخطير جداً لكونه يتحد مع هيموجلوبين الدم داخل الرئة (باسم كاربوكسي هيموجلوبين) فيمنع نقل الأوكسجين إلى الخلايا والأنسجة فيحدث التصاق جزئي. ويبين التركي أن هناك عدد من الأغراض التي تظهر على المتعرض لأدخنة السموم منها تغير لون الجلد والأغشية المخاطية ليحدث معه تسمم بأول أكسيد الكربون، وعندها تقل قدرة الإنسان على امتصاص الأوكسجين، ليس فقط الصدر والرئتين ما يتضرر جراء التعرض لأدخنة الحطب والكراتين فالمشاكل الجلدية التي تطال النساء كثيرة كونهن أكثر معاناة في إشعال نيران الحطب والكراتين واستعمالها للخبز أو لطهو الطعام.
وتوضح الدكتورة تيسير علي -اختصاصية جلدية- أن دخان الحطب والكراتين يكون ضاراً جداً للبشرة ويسبب حساسية وأمراض جلدية كثيرة منها الأكزيما وجفاف الجلد.
ليست أم وليد وحيدة في معانتها التي جلبتها لها الأزمة الاقتصادية الخانقة بل إن الآلاف من اليمنيات اليوم بتن يعشن نفس المعاناة سواءً كنّ في الريف أو المدينة. الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بالبلاد منذ بداية الصراع 2015 واستمرار المواطنين دون مرتبات ومصدر دخل حتى اليوم أمور تجعل المواطن اليمني يتنازل عن مستلزمات عدة وآخرها الغاز الذي ارتفع سعره مؤخراً ليصل سعر الأسطوانة الواحدة إلى 20 ألف ريال يمني مقارنة عما كان قبل الحرب، ويصف الخبير الاقتصادي أحمد حسن توجه المواطنين نحو الاحتطاب والطهو على الكراتين والبلاستيك بالكارثة التي تنعكس سلباً على حياة المواطنين بمختلف مجالاتهم، ويؤكد أن الاحتطاب ليس حلاً خاصة فعند ازياد الطلب على الحطب يزداد سعره أضعاف سعره قبل انعدام الغاز حيث وصل سعر الحملة الحطب لمليون ريال.
عبدالباقي شمسان -أستاذ علم اجتماع- يرجع معاناة المرأة جراء استخدامها للحطب والكراتين الى اتكال الرجل عليها في تحمل مسؤولية الطهو ولا يأبه إن كانت تتعرض لخطر أو لا، خاصة مع ظروف الحرب التي فرضت غياب الرجل إما في جبهات القتال أو الموت، وهذا يجعل المرأة تقدم على البحث عن وسيلة لصنع الطعام لأطفالها. ويضيف: “من المتعارف عليه
أن مع اشتداد الصراع والأزمات يعود الناس لاتباع خطوات الأجداد في إدارة الأزمات لذا يلجأ الناس لاستخدام الاحتطاب الذي يؤمن لهم الحياة لطهو والمعيشة”.
الدكتور يوسف المخرفي أستاذ ورئيس قسم البيئة والتنمية المستدامة يؤكد أن للأدخنة المتصاعدة نتيجة استخدام الحطب والكراتين وأيضاً مواد البلاستيك أضرار ومخاطر كبرى ليس فقط على الإنسان الذي تصيبه أمراض عدة بل إنه كذلك خطر على التوازن البيئي، ويبين المخرفي أن “اليمن يتمتع بغطاء نباتي متنوع وعند الاحتطاب تدمر البيئة ويصيبها اختلال في التوازن البيئي”، ويلفت إلى أن هناك بدائل عدة لمادة الغاز المنزلي كاستخدام البايوغاز (مخلفات الحيوانات) والتي نُفِّذت في بعض مديريات حجة، وأثبتت فعاليتها كبديل للغاز والاحتطاب والمواد السامة الناتجة عن الأدخنة المنبعثة منها”.
فهل يبحث اليمنيون عن حلول لمشكلة الغاز وبدائله دون التعرض لأضرار، أم أنهم سيستمرون بجعل المرأة في أول الصفوف لمواجهة خطر الأدخنة السامة؟