تجلس مريم (10 سنوات) بجانب حقيبتها التي وضعتها على الأرض، لتروي حكايتها مع التنمر الذي ينغص حياتها، فهي الطفلة التي تعاني من البهاق الذي جعل زميلاتها في المدرسة ينظرن إليها بنظرات جارحة، تجعلها تلك النظرات حبيسة شعورها المستاء من الاختلاط بصديقات جدد تجنباً لأي ردة فعل أو نظرة قد تهوي بها إلى شعور شنيع.
تقول مريم: “حين ألعب بالقرب من زميلاتي في المدرسة، ألاحظ تلك النظرات التي تتبعني بكثب وكأنني شيء مختلف أو قادم من مكان آخر، ألعب وحيدة لأن زميلاتي يخشين من أن البهاق سينتقل إليهن، صحيح في الغالب لا أسمع كلمات تسخر مني، ولكن نظراتهن تقول كل شيء”.
ويتعرض الكثير من الأطفال داخل المجتمع اليمني للتنمر دون إدراك منهم لماهيته، ويلجأ البعض منهم للصمت كرد فعل بسبب قلة الوعي بكيفية التعامل معه، أو قد يعتقدون أن التحدث قد يسبب لهم مشاكل هم في غنى عنها. ما يؤدي إلى تطور الأمر ويحول كثير من الأطفال إلى اتباع ردود فعل عنيفة تجاه من يمارس عليهم التنمر.
على الرغم من انتشار الوعي العام بتأثير العنف على الطفل في المدارس والشارع، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والحملات التي تقام من خلاله، فإن مجتمعاتنا تشهد تزايداً حاداً في حالات العنف، وخاصةً التنمر الذي أصبح ثقافة مجتمع يتقنها الجميع، بحجة المزح وإطلاق النكات دون الانتباه لحجم الأذى الذي قد يتسبب به. خصوصاً بعد أن ظهرت قصص لأطفال كانوا ضحايا نتيجة العنف الذي مورس عليهم في المدرسة أو حتى مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما قادهم الأمر لإنهاء حياتهم.
ولا يزال وعي المجتمع اليمني بالمخاطر التي قد يسببها هذا السلوك متدنياً للغاية، وفي كثير من الأحيان لا يعتبرون أنه فعل مؤذي، وغالباً ما تكون العائلة بنفسها من يقوم بهذا الفعل تجاه بعضها. ويعد هذا السلوك من أسوأ صور العنف الذي يمارس بشكل دائم في معظم المجتمعات، لا سيما المجتمعات العربية التي بدأت بعضها مؤخراً بوضع عقوبات تحد من ممارسته. لكن في اليمن الذي يشهد حرباً مستمرة منذ ما يقارب الثمانية أعوام، يعد التفكير في المطالبة بوضع قوانين تحد من التنمر أمراً مستحيلاً، خاصة أن البلاد تشهد حالة تيه عام وانفلات أمني وخطابات كراهية لا تعد ولا تحصى.
المدرسة بيئة خصبة
تعتبر المدارس أكثر بيئة خصبة بالتنمر، خاصة أن بعض الأطفال الذين يتسمون بالقوة والسلطة، يشكلون “شللاً” على الأطفال الأضعف منهم، حيث يتسببون بأضرار نفسية وجسدية على الآخرين، وقد يدعونهم لردة فعل تجاه السلوك الذي يتعاملون به، مما يسبب زيادة العنف بين الطلاب، إضافة لضعف رقابة العائلة والمدرسة لهذا السلوك وعدم وضع الخطط الحازمة للتخفيف من شدة التنمر.
تقول مريم الخليفي (معلمة): “إن الأطفال الذين يتحدثون بكلمات سيئة وسلبية بحق أطفال مثلهم، أمر غير مقبول على الإطلاق. وأن يكون هنالك طفل لم يرى من الدنيا شيء يحمل كل هذا التوحش والعنف، أمر مخيف لأنه غالباً يطلق الكلمات التي تؤذي طفلاً مثله بقصد ومعرفة تامة بتأثيرها والألم الذي ستتركه في زميله. وتضيف: “أنا كمعلمة أشاهد كل يوم عشرات الحالات لطلاب وطالبات يتنمرون على بعضهم البعض، وغالباً يضاف العنف الجسدي إلى العنف اللفظي في هذه الصراعات، وعلى مدار خبرتي التي تتجاوز خمسة عشر سنة كمعلمة، حاولنا أنا وزملائي أن نخفف من حدة الأمر، ونضع قوانين صارمة. لكن لا حياة لمن تنادي لأن الأهالي لا يساعدون المدرسة في حل هذا الإشكال السلوكي لدى أبنائهم، بل إن هنالك أولياء أمور حين نستدعيهم من أجل المشاكل التي قام بها أبناؤهم، يرون أن أبناءهم لم يخطئوا أبداً”.
وفي هذا السياق أشارت بيانات منظمة اليونسكو ، إلى أن التنمر يؤثر على واحد من بين ثلاثة طلاب حول العالم، وعواقبه يمكن أن تكون لها تبعات وخيمة على التحصيل العلمي والتسرّب من المدرسة والصحة البدنية والعقلية. وأظهر البيان أن الأطفال الذين يتعرّضون للتنمّر بشكل متكرر هم أكثر عرضة بثلاث مرّات تقريباً للشعور بأنهم دخلاء في المدرسة، وتتضاعف احتمالية التغيّب عن المدرسة أكثر ممن لا يتعرّضون له، وينعكس ذلك على تحصيلهم العلمي كما أنهم عرضة لترك التعليم الرسمي بعد إنهاء المرحلة الثانوية”.
ويعتبر الاخصائي النفسي زكريا الصنوي، أن هذا مرض متفشي بدرجات متفاوتة وفي أماكن مختلفة ولكنه يتفشى في المدارس على وجه الخصوص، واللفظي منه يتجاوز كونه لفظياً ويتحول في كثير من الأحيان إلى تنمر جسدي واستقواء على الطرف الأضعف. وأدرج الاخصائي الصنوي عملية الاستيلاء على الممتلكات الشخصية، تحت مسمى التنمر. إلا أن ما يدفع القائمين بذلك ما هو إلا شعورهم بأنهم أقوى من الطرف الآخر وهذا هو الأصل في الطرف الذي يتصرف بهذه الطريقة.
ويضيف الصنوي أن “الخطورة التي تلحق الضحية قد تصل إلى مراحل خطرة، إذا تم التغاضي عنها. وإن التصدي لهذه الظاهرة يجب أن يكون عبر خطوات عملية وبنّاءة، أهمها التوعية والإرشاد المستمّرين في الأماكن العامة وفي المدارس على وجه الخصوص”.
يظل التفكير في مسألة أن يفقد طفل ما حياته بسبب التنمر، تفكيراً صعب. كيف لطفل صغير جداً أن يتحمل كل تلك الكلمات والأفعال حتى يفقد صوابه، ولكن في بلاد تشكل الحروب قوانين خاصة وقسرية، ترافقت مع غياب السلطات وتنصلها عن مسؤولياتها، من الطبيعي أن تتحول البلاد لبيئة خصبة لانتشار الظواهر السلبية. ورغم ذلك يجب أن يكون هناك دور فعال للمدرسة والعائلة في حماية الأطفال، وتعليمهم كيفية حماية أنفسهم، إضافة لوضع المدارس أنظمة صارمة لمكافحة هذه الظواهر.
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).