سيكولوجية الفقد!

إن شعور الفقد يُعتبر مما أوجد الخالق في هذا الكون كمثله من السنن الكونية الأخرى، والفقد هو الشعور الذي يمر به الجميع دون استثناء، وفي أوقات غير متوقعة ربما. ولذلك فإن عدم المعرفة بسبب استيعاب صدمة الفقد يرجع سبب مضاعف علينا إذا حدث هذا الأمر معنا لا نتجاهل المشاعر الجياشة عند تلك المرحلة؛ لذلك أقول إن محاولة الاستيعاب ستكون مساعدة ليس للتجاوز في لحظته الأولى وإنما في خطواته التي تمضي بك قُدماً.

أسباب الحزن غير محددة كبعض الاضطرابات الأخرى، فقد تكون أسباب متعلقة بالبيئة أو بالشخصية أو بالصفات الوراثية أو تكوين الجسم الكيميائي، في حين أن “صدمة ما بعد الفقد” سبب من أسباب الحزن عندما يكون المفقود شخص عزيز، وعلاقتك مع الشخص المفقود له مساحة كبيرة من حياتك، فالحزن عبارة عن حالة نفسية مؤقتة حسب قول الاختصاصيين النفسيين وأنها حالة مارة حيث أن من البديهي في بعض الأحيان أن تحتاج وقتاً طويلاً للخلاص منه، لذلك هناك سلوك يُعرفُ بالتدرج؛ أي ببساطة أن يقل الألم وتبدأ بالتأقلم مع الوضع الجديد والمختلف مع مرور الزمن. وكما قال الأديب والروائي أحمد خالد توفيق (لا شيء يشفي سوى الزمن)، فالتدرج معول خفيٌّ يحفر إلى العمق للوصول لحل المشكلة.

ومراحل الحزن التي يمرّ بها الإنسان عادةً تبدأ بالتعجب جزماً بعدم الحدوث، والانفعال بسبب الصدمة، والشعور بحنقٍ وتوتر تجاه الحياة، والرغبة بتقديم أي تضحية لعودة الحياة كما كانت قبل الفقد، وأن هناك أشياء انتهت في الحياة، والشعور بيأس وإحباط وتشتت وارتباك، وأن قلة الحيلة قد تكالبت عليه ثم يعقب الأمر نقطة التنوير؛ كالقول إن ما حدث قد حدث وعليّ إكمال الطريق، فيبدأ باستكشاف الخيارات المتاحة، ولذلك يمكن تلخيص هذه المرحلة حسب ما أشارت إليه الدكتورة إليزابيث كيوبلوروس بأن الأمر يبدأ بإنكارٍ يتبعه غضب ثم مساومة يلحقه اكتئاب ويُختم بالتقبل.

ولكن عند تحول الحزن الطبيعي الذي يكون علاجه مع مرور الوقت إلى حزن معقد فعندئذ يكون له مضاعفات تؤثر على مختلف حالات الإنسان البدنية والنفسية والاجتماعية، ومن ضمن المضاعفات: أن تحيط بالشخص أفكار وسلوكيات غير سوية، واضطرابات النوم، وعدم القدرة على الاندماج مع المجتمع والقيام بالأعمال الروتينية، وصعوبة في ممارسة الحياة مرة أخرى، هنا يأتي البحث عن متسع يساعد على خروج الشخص من وضعه السيء. حيث أن الكلام يساعد للتعبير عن الحزن، كذلك الدعم من خلال العائلة والأصدقاء للمساعدة في التعامل مع الحزن.

وعندما يطأُ الفقد الإنسان فإن تغييرات تحدث له، ومن بين ذلك العقل الذي يبث أفكاراً سلبية تضاعف الألم كالذكريات وهو أمرٌ طبيعي ولن أقول ليس عليك الشعور بكل هذا، بل أريد تصويب معنى بسيط وهو التكّيف مع المشاعر التي تعاود المرء عند التذكر؛ ففي النهاية إن النفس البشرية أعظم ما في الوجود وإن قيلَ أنّ شيئاً أعظم فما كان الله نفخ من روحه فيها. لذلك فإن من الأقوال الدارجة عند سؤال أحدهم في هذه المرحلة (أنا من بعد رحيل أمي لم أعد أستطيع مواصلة الحياة) وأيضاً (أنا لست الشخص ذاته بعد وفاة أُبي) وقد ينطبق القول عند فقدان زوج أو أخ أو صديق وغيرهم، أي أنها مشاعر إنسانية قد ترجمت خطأ؛ عندئذٍ فالعقل اللا واعي يحاكي ما يصله من معلومات. فالمشكلة مركز احتكاكها ليس سوى نتاجاً لغياب المعرفة أو (التعقل) والإبحار في هامشٍ من الألم المدقع وتمكن الصدمة من الشخص. وكما أسلفنا فالحزن على من تفقد لا يتلاشى فجأة، وأيضاً المناسبات والمواقف تعيد لك المشاعر المؤلمة وتجدها محاصرة لك بين فترة وأخرى وتسمى هذه المشاعر “رد فعل الذكرى” ولكن التكيف مع الذكريات وتقبلها ومحاولة تجاوز المرحلة بمساعدة المقربين طريق موصل للشفاء .ولكن إذا لم يستطع المرء تجاوز الصدمة مع الوقت والتدريج وبلغت الصدمة حيزاً كبيراً في نفسه بأن أصبح حبيساً لها وأصبحت الصدمة مسيطرة عليه وأحيل الأمر من الحزن الطبيعي إلى المعقد يتحتم على الشخص القيام بالاستشارة الطبية حسب ما أفادت به الاختصاصية الاجتماعية وفاء العنزي.

وإذ استوقفني قول الشاعر مريد البرغوثي في رثاء زوجته (إن الحزن يشغل الحبيب عن محبوبه) ليس الحزن الذي يزور المرء ذات حينٍ، بل الحزن المعقد الذي يجثو عليك فيقتل قلبك.

وختاماً نعرج إلى فعل من قيل عنه قرآنٌ يمشي، صلوات الله وسلامه عليه عندما رأى صاحبات زوجته لم يجلس باكياً لذكرها بل فز في قلبه حبها وحزنه على رحيلها فأكرم مقامهن وقال (هؤلاء صويحبات خديجة)، وكذلك أنت ألم يئنِ لقلبك أن يُحسن النهج؟

لذلك الفهم الصحيح يساعد على حل كل ما بك؛ فالحل داخل المشكلة. فما الفقد بمعضلة بسيطة بل هي من أجلّ المصائب وأن ما يشعر به من صدمة الفقد ليس بهين وأن أثر المفقود في القلب عظيم لكن ثبّت فؤادك وحدِّد طريقك.

• هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي الثقافي والفنون (آفاق).