“إذا كنت تعيش في مجتمع يعاني من ارتفاع معدلات العنف وجنوح الأحداث، فإن أفضل شيء يمكن أن تفعله هو بناء ملعب كرة قدم، وليس استدعاء الشرطة”، هذه المقولة أثبتت فعلياً أن كرة القدم بما تحتويه من إثارة ومتعة، وبشعبيتها الجارفة على مستوى العالم قادرة فعلاً على إحداث تغيير إيجابي في المجتمع وسلوكياته، وقد ثبت فعلياً أن كرة القدم بوسعها كبح جماح العنف، والحد من معدلات التحاق العاطلين والقُصر بعصابات الجرائم، إذ يجد هؤلاء في ملعب كرة القدم ما يمنحهم مساحة للتفكير العقلاني حول حيواتهم وأمانيهم وتطلعاتهم المستقبلية، خصوصاً في ظل المستقبل الواعد الذي باتت توفره كرة القدم للاعبين المهرة في هذه اللعبة السحرية.
في هذا الصدد قام الكاهن الكاثوليكي ألبرتو غيتشي بتشييد ملعب لكرة القدم في جوتيكالبا -إحدى مناطق هندوراس التي تعاني من تهريب المخدرات وانتشار العصابات المسلحة- وكانت النتيجة أن قل عدد الملتحقين بتجار المخدرات، وقل استهلاك المخدرات، وانخفض معدل الالتحاق بالعصابات المسلحة، وهذا دليل فعلي على أن كرة القدم بوسعها الإسهام في تنمية المجتمع وتجفيف منابع الجريمة ولو بشكل جزئي.
كانت كرة القدم ولاتزال واحدة من أكثر أنواع الرياضة شعبية وتطوراً عبر الزمن، كلعبة تجذب المسامع والأبصار وتسلب الألباب، في تنافس مهاراتي وبدني على مستطيل أخضر بين فريقين قوامهم 22 فرداً يحملون هويات مختلفة، همهم إسعاد الملايين من البشر (الجماهير) سواء من أولئك المؤازرين في المدرجات، أو المناصرين من خلف الشاشات في مختلف دول العالم.
تلك الشعبية وذاك الزخم الذي يحف هذه اللعبة السحرية، وتأثيرها الكبير على الشعوب فرض على المجتمعات استخدامها كأداة تغرس في نفوس الشباب والأطفال المهارات التي تساعدهم على حل الصراعات بالطرق السلمية، دون اللجوء إلى العنف أو حمل السلاح ضد الآخر.
كذلك فإن هذه اللعبة تعد وسيلة لجمع الناس بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم على رؤية واحدة ورغبة واحدة هي الفوز، وتشكل عامل اندماج رمزي وعاطفي وقومي بين بلد ما والبدان الأخرى، كما هو حال الشعوب العربية والأفريقية التي أجمعت كلها على تشجيع المنتخب الجزائري، في نهائيات كأس العالم 2014 بالبرازيل، باعتباره الممثل العربي الوحيد للعرب، والأبرز بالنسبة للأفارقة، و كذلك فعل جمهور دولة بوركينافاسو، رغم أن الجزائر صعدت إلى المونديال على حساب منتخبهم الوطني في مباراة مصيرية بالملحق الأفريقي حسمها الجزائريون، ووقف الجميع خلف الجزائر، بعيداً عن الاعتبارات الدينية، والسياسية، وغيرها من العوامل.
ليس هذا فحسب بل إن كرة القدم كانت ومازالت وسيلة للتعايش بين الشعوب والأفراد رغم التوترات السياسية بين الأنظمة السياسية، وهذا الأمر جسدته علاقة التعايش والاحترام المتبادل بين اللاعب الأرميني هنريك مختاريان وزميله التركي نوري شاهين تحت لواء نادي بروسيا دورتموند، رغم التوتر بين بلديهما على خلفية قضايا تاريخية وسياسية بينهما، لكن ذلك لم يقف حاجزاً بين اللاعبين اللذين يدافعان عن ألوان نادي واحد.
في اليمن وفي الأشهر الأولى من العام الجاري، كانت الحرب في أوجها بين الأطراف المتنازعة، والإعلام أصبح منبراً لتبادل التهم والتأجيج الطائفي، والتخوين السياسي، وفجأة حلت التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس آسيا لكرة القدم 2019، وكان المنتخب اليمني الحصان الأسود فيها، التفّ اليمنيون حول المنتخب وشجعوه عبر مختلف الوسائل المتاحة لهم، واتحدت وسائل إعلام أطراف الصراع في الإشادة به، وقل الاهتمام بالشأن السياسي حينذاك، ليمثلوا أروع صور التلاحم والحب، بيد أنهم ظلوا متمترسين خلف المواقف السياسية، رغم خفوت صوت الكراهية إلى أجل ليس بالقصير، وما إن تأهل المنتخب وانتهت التصفيات حتى عاد كل طرف إلى تأجيج الحرب وإذكائها أكثر مما كانت عليه في السابق.
الجميل في كرة القدم اليوم، هو ذلك الطابع الإنساني الذي يكتنفها، عبر التعاطف مع ضحايا الحروب، وذوي الإعاقات، كذلك حرصها على تجنب الشؤون السياسية، وتحريمها لمظاهر العنصرية والكراهية بين اللاعبين، لكن هذا لا يعني أن كرة القدم نزيهة تماماً ومحايدة تماماً فالتاريخ حافل بالكثير من العلاقات بين المشاريع السياسية وكرة القدم، ولطالما سعى السياسيون لاستغلالها كوسيلة دعاية في إعلام السلطة، فمثلاً موسوليني اعتبر أعضاء منتخب بلاده جنوداً من أجل قضية الأمة، كما أدت مباراة كرة قدم إلى إشعال حرب دامية بين السلفادور وهندوراس، ذهب ضحيتها حوالي 2000 قتيل من الطرفين، لكن هذا لا يعني أن العلاقة بين كرة القدم والسياسة دائما نتائجها سلبية، فهناك إيجابيات بغض النظر عن مشروعية تلك العلاقة من عدمها، ومن تلك الإيجابيات استخدام اللعبة كوسيط دبلوماسي بين الدول، كاستغلال تركيا لإحدى المباريات مع المنتخب الأرمني، واستخدمتها كوسيلة للتقارب السياسي والدبلوماسي مع الأرمن، وبفضل هذه الدبلوماسية الكروية تمكن البلدان من توقيع اتفاقية تاريخية بينهما في 2009، أدت إلى إزالة الكثير من رواسب القطيعة والكراهية التي امتدت لفترة طويلة من الزمن.
بقي القول إن كرة القدم تعد أعلى كعباً من السياسة على مستوى الشعبية والتأثير، ولديها الكثير من الإمكانيات لتعزيز عمليات السلام، وبث روح المحبة والتعايش بين مختلف الشعوب، لكنها بحاجة لمزيد من الدعم والتطوير، مقارنة بالسياسة التي باتت تحظى بإسناد ودعم عالمي كبيرين مكنها من تكسير إرادة الشعوب في سلام وتعايش دائم.
هل وجدت هذه المادة مفيدة؟