يختلف المهاجرون باختلاف أهدافهم، فمنهم من يبحث عن لقمة العيش ومنهم من يبحث عن الأمان ومنهم من يهاجر طلباً للعلم أو بحثاً عن الحريات.. إلى آخره. الذين يبحثون عن تحسين مستواهم الاقتصادي يهاجرون إلى بلدان خليجية نفطية وغالباً ما يفكرون بالعودة إلى وطنهم، أما الذين يبحثون عن الحريات والاستقرار النفسي فيهاجرون إلى بلدان أوروبية تتمتع بمناظر طبيعية خلابة ومجتمعات غير عنصرية ودساتير تحمي الجميع دون تفرقة. وهناك من يهاجر بهدف الحصول على الجنسية فقط لأنها توفر حماية معنوية ودعم نفسي يرضي غروره داخل الوطن.
قديماً، يوم كانت الأرض مفتوحة للجميع، كانت الكوارث البيئية تدفع الناس للانتقال من مكان إلى آخر، مثلما حدث بعد تهدم سد مأرب. حديثاً تلعب الكوارث السياسية، الحروب، والكوارث الاقتصادية، الفقر، إلى انتقال الناس إلى بلدان أكثر أمناً ورخاءً، لكن الفيزا وحرس الحدود حولت البلدان إلى سجون كبيرة وإلا لخلت بلداننا العربية من سكانها. وما زال المواطن العربي مهاجراً، منهم من يهاجر بجسده ومنهم من يهاجر بروحه، وحاله كما وصفه مظفر النواب، كالطيور المهاجرة، “لكن سبحانك حتى الطير لها أوطان وتعود إليها وأنا لا زلت أطير، فهذا الوطن الممتد من البحر سجون متلاصقة سجانٌ يمسك سجان”.
الغريب أن الناس يفرون من جحيم بلدانهم إلى بلدان يعتقدون أنها جنات الله على الأرض، على الرغم من أن حكام تلك الجنات أسهموا بأشكال مختلفة في تحويل بلداننا إلى جحيم. ولو أن البلدان الغربية توقفت عن دعم أنظمة الحكم الديكتاتورية ودعمت الديمقراطيات والتنمية، في البلدان النامية، لما شكَت من مشكلة الهجرة والإرهاب، ولما ظلت بلداننا “نامية” ونايمة.
قبل أشهر كنت في أحد المستشفيات الخاصة لعمل فحص مسح ذري، لم تكن المختصة للعمل على ذلك الجهاز متواجدة. اكتشفتُ أنها تعمل في مستشفى حكومي أيضاً، وقلة ممن تبقى يعملون في هذا التخصص فكان عليّ أن أعود في وقت آخر. أغلب الذين يعملون في التخصصات الطبية ولديهم خبرة طويلة وشهادات عالية تركوا اليمن منذ سنوات ولم تسهم الحرب إلا في زيادة عدد المهاجرين. الوضع أيضاً ينطبق على تخصصات أخرى، أما العمال فعددهم بالملايين.
البيئة اليمنية طاردة للثروة البشرية وطاردة لرؤوس الأموال كذلك، فكل التجار تقريباً لديهم استثمارات في دول عربية وأجنبية وحجم تجارتهم هناك أكبر بكثير مما هي عليه في بلدهم الأم، والسبب الرئيسي هو عدم ثقة المستثمر اليمني ببلده سياسياً واقتصادياً. وبما أن الوضع يسير من سيء إلى أسوأ عبر التاريخ فإن مواسم الهجرة من البلدان الفقيرة -من كل شيء، إلى الشمال الغني بالطبيعة والمادة والحريات- ستستمر.
قلة فقط الذين لا يهتمون كثيراً لمفهوم الوطن بمعناه المكان الذي نشأ وترعرع فيه الإنسان. هؤلاء يرون أن الوطن هو المكان الذي ينعمون فيه بالأمن والأمان والرفاه والحريات، ومنهم من يقدم الحريات على لقمة العيش، لذلك يضطرون إلى ترك مسقط رأسهم واختيار مأوى آخر للروح. شعار هؤلاء:
المكان الذي فيه كهرباء لا تنقطع هو وطني، المكان الذي فيه شبكة مياه نظيفة وشبكة صرف صحي ورعاية صحية وتعليم جيد ونظام وشوارع مسفلتة ومكتبات ودور سينما وحدائق وملاهي ورواتب محترمة وانتخابات ديموقراطية وأمن وأمان هو وطني، المكان الذي أُعبِّر فيه عن آرائي وأفكاري بحرية ولا أكون مهدداً بالقتل في أي لحظة هو وطني، المكان الذي فيه انترنت سريع هو وطني، المكان الذي ليس فيه أسرة تدَّعي الشرف وأحقيتها في الحكم على أساس ديني هو وطني. أما المكان الذي يفتقر إلى كل ما سبق ليس وطني. هكذا يفهم الغجري الحر الوطن، وهكذا كان يدرك الإنسان الأول مفهوم الوطن وهو يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن مكان أفضل، وأغلبنا اليوم غجر لولا أن القيود تمنعنا عن تحقيق ما نصبو إليه.