ربما نحن بحاجة إلى التفكير خارج الصندوق بصورة استراتيجية لا تخضع لمكتسبات الحرب وعوامل أحقادها، بعدها سنكتشف أن التركيبة الاجتماعية المتعايشة لزمن طويل رغم تباينها سياسياً، ثقافياً، واقتصادياً مازال بمقدورها أن تلتحم مرة أخرى وتعيد بنية الجسد المتناثر وراء الانحيازات المتطرفة التي خلفت اعتقاداً مغلوطاً بأن الجميع في مصاف الحقيقة المطلقة، ما يستوجب القتال حتى آخر رصاصة وإنسان.
من هنا تحديداً كانت بداية المشوار الدموي الذي مضى عليه عامان يختزلان بمشهد من دمار المدن “التي كانت لنا ولم تعد لأحد”، ومن صور القتلى -الشهداء مجازاً- الذين ظنوا بأن الموت في سبيل الانتماء أولى من البقاء في سبيل الحياة.
رغم كل تلك المأساة المعقدة وتداخلها، يمكن التعويل على الموروث التاريخي لليمن الذي نجح في تغييب لا إلغاء الانتماء العرقي، والمناطقي، والديني لصالح الانتماء الإنساني بدرجة أساسية، واستطاع صهر تلك التباينات في قالب وطني خالص، ليس بقوة السلطان ولكن عبر الحفاظ على بنية التعايش التي جبل عليها الإنسان اليمني منذ كان؛ لأنه لم يواجه نقيضها على مدى قرون طويلة، حتى جاءت مفاهيم العصبية المقيتة التي تشارك في إنتاجها -مطلع الستينات- لفيف من الغرباء (السيادينيين) على الهوية اليمنية؛ فعملوا على تغذية نباتها الصغير حتى أصبح شجرة فارعة نتناول ثمارها بحسن نية، دون إدراك بأن سمومها قاتلة إلا مع ما يحدث اليوم.
انقضى كل شيء مع سيطرة هذه المكونات السياسية على المشهد والعقل اليمني، مسخّرة آلة إعلامية ضخمة تسوق الناس إلى المجهول، حتى أولئك الذين حاولوا الابتعاد عن مهالك الصراع وفضلوا البقاء خارج الدوامة، لم يسلموا من مطاردة الاستقطابات إما بإغراءات مالية، أو أن مخالب الحرب الدامية خدشت صمتهم، فلم يستطيعوا إلا أن يكونوا جزءاً من مبارزة الصراع العدمي الذي نخوضه بلا اكتراث للمستقبل، واحترام لماضٍ حفر اليمنيون على فصول تاريخه دستوراً متيناً للتعايش.
لكن الانتماء القاتل الذي نعيشه اليوم، هو بالأصل مجرد استثناء طرأ فجأة على الهوية اليمنية، ومن السهل تجاوزه بالعودة إلى الإنسان اليمني الأول الذي كان يقصد دور العبادة للصلاة لا لأي شيء آخر، أو أن تصبح وجهته خاضعة للانتماء لطرف ديني معين، أو انجذاباً لبوسترات التسويق الإسلامي التي تغطي كل المساحات الفارغة في الشوارع، ويراعي استحقاقات التكافل المجتمعي بعيداً عن دلالات الصلات العرقية أو المناطقية أو الدينية، لأنه كان أكثر نقاوة من السياسي الذي يطعم النسيج الاجتماعي المتعاضد بفايروسات الفرقة والتفكك منذ 7 أعوام.
دعونا فقط، نعود إلى الذات الأصيلة قبل فوات الأوان، دعونا نعود إلى الماضي لنؤسس مستقبلاً للجميع، قبل استجلاب تجربة خارجية تقسم البلاد إلى كتل طائفية على الطريقة اللبنانية أو مناطقية ملغومة ومهددة بالانفجار في أي لحظة نزق سياسي.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.