يقطع تفكيري موظف الجوازات سائلاً أن أنتظر فحص جواز سفري (لأسباب أمنية بالطبع)، وفي كرسي الانتظار أتصفح الأخبار أو المنشورات في العالم الافتراضي (كذباً)، باحثاً عن الأخبار في بلدي، باحثاً عن بصيص أمل يطمئنني بأن أهلي ما زالوا بخير، وأن لا مجرم يحوم حول ديارهم من الأرض أو السماء.
أعود لذات السؤال اللعين “لماذا؟” ، لماذا نغوص في هذا الوحل الأحمر المظلم بلا تردد أو تفكير، أحوم سريعاً حول الصفحات والنقاشات العقيمة التي تشبعت منها، أسرح عنها إلى التفكير بهذا الجنون، رباه ما هذا؟
تاريخ نجرُهُ وراءنا ويجرنا للأسفل، خلافات القرون السابقة مازالت حية، وكأن دم الحسين مازال يقطر، أو أن خلاف علي ومعاوية مازال ضجيجه في الحجرات نسمعه بكل وضوح، كأن السيوف مازالت متشابكة في حروب الإخوة الذين فرقتهم الكراسي.
تاريخ نجره ويجرنا، وأي أمة مازال يحكمها الماضي إلا نحن؟
أردد في جوفي دعاءً أعلم ألّا فائدة منه، لكنني لا أستطيع كِتمانه، ليتنا بلا ماض ٍ ننام ونصحوا فيه بلا حاضر أو مستقبل، ليتنا بلا قدامى تربينا على قصصهم ومجَّدنَاها حدّ القداسة، ليتنا بلا تاريخ نتمنى أن يعود، ليتنا بلا (أمجاد) نريد بعثها من جديد كلما أتيحت لنا الفرصة، ليتنا بلا أمس نراه أفضل أيامنا بغباءٍ واستهتار بالحاضر والمستقبل، والعالم لا يرى غير المستقبل.
ليتنا لم نسمع عن علي أو معاوية أو يزيد أو الحسين أو من لحقهم، أولئك الذين اختلفوا فأوقفوا الزمان في عصرهم، وها نحن نعيشه جيلاً بعد جيل.
إلى أي “داهية” نهوي؟
بلدانٌ انتهت تماماً، وأيامٌ بلا فرجٍ يعيشها الملايين، أفراد وجماعات تتغنى بالموت والشهادة ليل نهار، تجري للموت من أجل أفكار لم تعد صالحة لهذا الزمان وأهله، انفصال عن الواقع لا مثيل له يعيشه المسلمون في كل بقاع الأرض.
لم يضرّ التاريخ أمة كما ضرّ هذه الأمة، فالتاريخ في علم الأمم أداة للتعلم والاستفادة، وسيلة لصنع الحاضر والمستقبل بشكل أفضل، أما نحن فلا تسيطر علينا إلا فكرة تمجيد الماضي، وتقديس مساوئه قبل حسناته، والسعي لإعادته من جديد.
ها نحن إلى الآن نفقد بلداننا بلداً تلو بلد، اليمن، سوريا، ليبيا، العراق وو، كثقب أسود يجرّنا للأعماق ونتبعه بكل استماتة وغباء.
لم أعد أثق في تاريخ لم يورث لنا غير الحرب وأحلام اليقظة، سأربي أبنائي على النظر للمستقبل بكل ما فيه من حياة وجمال، سأعلمهم أننا كلنا بشر، وأن أعمالنا تحكمها الفطرة الإنسانية لنعرف صوابها من خطئها، سأعلمهم أن لا قداسة لنص فكل الكلام لابد أن يتقبله العقل والقلب.
أعلم أن دعائي للماضي لن يتحقق، فنحن معجونون بالماضي، لكنها أمنية أطلقتها حرقة، لعلنا نستفيق في تربية الجيل القادم ليتطلع للمستقبل والسلام بعيداً عن صراعات الأولين.
ودمتم سالمين،،
- مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.