في الأيام الأولى من هذا الشهر أشار علي صديق ببرنامج رمضاني يُعرض على قناة “أم بي سي” ذائعة الصيت، والتي ترجع ملكيتها لأحد رجال الأعمال السعوديين، وهي القناة التي تحوز على أكبر نسبة مشاهدات في العالم العربي كقناة ترفيهية، كما تزعم بعض الإحصائيات.
بدافع الفضول ورغبة في معرفة عينة من نوعية البرامج الرمضانية المعروضة على شاشات التلفزة العربية فتحت الفيديو لمشاهدته، ولنفس الأسباب المذكورة استطعت أن أمضي مع تفاهته التي لا تُحتمل خِفتها إلى نهايته خلال زمنٍ امتد إلى نصف ساعة تخللتها الكثير من الإعلانات والدعايات، والتوتر من جانبي.
لم يشدني في البرنامج شيء عدا عن الضجيج والصخب الذي يستطيع بجدارة أن يفلق جمجمة حديدية شديدة المتانة، وتفاهة ازدهرت بشكلٍ مفرط مقارنة بالنسخة الأولى من البرنامج التي بُثَّت حلقاته قبل عدّة سنواتٍ.
أكثر ما لفت انتباهي في هذه النصف الساعة العسيرة، هو أحد الإعلانات التجارية التي تتبع شركة أغذية خليجية وهي تقوم بعرض منتجاتها الكثيرة كأطعمة ومشروبات جاهزة تتكدس على مائدة رمضانية أسطوريّة، مائدة “فردوسيّة” بامتياز، ويتخلل الإعلان أصوات التهاني بالـ “شهر الكريم” التي تأتي من خلف الكواليس بلهجات محددة، ونصائح للصائمين، ورحلة الكاميرا الانسيابية بين أول نقطة على المائدة يقف عليها أحد منتجات الشركة انتهاءً بهلال رمضان في أعالي السماء.
بحسب مساحة المكان وأبعاد المائدة، وعدد الأصوات التي تأتي من خلف الكواليس، يمكن للمرء أن يُقدر عدد الصائمين الذين سيتحلقون حول هذه “المائدة السماويّة”، مفرطة البذخ، بما لا يتعدى العشرة أشخاص، على أكثر تقدير.
ومن خلال خبرتي السابقة أعتقد أنه ليس هذا الإعلان هو الوحيد من نوعه الذي يُعرض على شاشات التلفزة العربية في شهر الصيام، وإن كان هذا الإعلان مُلفت للنظر إلى درجةٍ صادمةٍ.
سمّى بعض الباحثين تأثيرات جهاز التلفاز الذي يحوز على عدد مهول من المتابعين نظراً لطريقته الفريدة في الاستهلاك المُقدّمة بكل يُسر وأريحيّة، فما على المتابع سوى أن يجلس أمام الشاشة ليصله سيل جارف من نماذج وسلوكيات ثقافية لا تنقطع على مدار الساعة، سمّوا هذه التأثيرات بـ”الإيديولوجيا الناعمة ” (soft ideologie)، بمعنى أن جرعاته تتغلغل وتنساب إلى عقول مشاهديه بهدوء وبلا ضجيج على عكس ما كان يتم في الوسائل الأخرى في العصر السابق له. ولقوته الخارقة في التأثير فهو يعمل بشكل جذري على تغيير السلوك وتحريض الوعي على ممارسات وسلوكيات اجتماعية واقتصادية وسياسيّة وترفيهية معينة.
على ضوء هذه المُعطيات العلميّة، وبالعودة إلى حالة البذخ والتبذير المبالغ فيها على موائد رمضان سواء تلك المعروضة من خلال الإعلانات التجارية أم تلك الصورة التي تُصر على تقديمها البرامج الترفيهية والمسلسلات التلفزيونية، يمكن القول بأن “شهر الصيام” بالطريقة التي يُقدم بها على أجهزة التلفاز العربية واضعين في الاعتبار حجم تأثيره العميق على أنماط الممارسات عند الجمهور، قد فَقَد وظيفته (الدنيويّة) كليّا، أي كوسيلة من وسائل تعزيز الترابط والتماسك والتضامن الاجتماعي بتذكير الأغنياء بأحوال الفقراء لتحريضهم على المساعدة، وكذلك للفوائد الصحيّة المرجوة. صارت الصورة الطاغية عن هذا الشهر الذي يكتسب قدسيّة خاصة عند المسلمين، وتصاحبه طقوس استثنائية، في منتهى السوء من خلال هذا الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب، وتؤشر على حجم الضرر الفادح الذي يلحق بصحة الإنسان، والتدمير الذي يطالها من خلال هذه الممارسات الغذائية الكارثية، عدا عن كونه، وهذا هو الأسوأ، إيذاءً صارخاً وجارحاً لمشاعر الفقراء والمعدمين في ظل مشهد عربي/إسلمي تجاوز عدد النازحين والمشردين الذين بالكاد يجدون قوت يومهم، عشرات الملايين.
في هذا المشهد الرمضاني الطاغي، تبدو موارد الصيام الإيجابيّة وقيمه (المُفترضة) من وجهة نظر وظيفية قد جرى استنفادها بصورةٍ شديدةٍ السوء والوقاحة وعلى كافة المستويات، سواء على صعيد النتائج السلبيّة المترتبة على حالة الوعي من خلال كميّة البلاهة التي تُزود بها أجهزة التلفاز العربية جمهورها، فتستنفد كل طاقتهم الذهنية من خلال برامجها شديدة الرداءة والتسطيح، فتنزع عنهم نعمة الوعي والإدراك في هذا الشهر، أو من خلال المأكولات والمشروبات التي باتت تُكرس عادات صحيّة مدمرة وفوارق اجتماعيّة فاحشة جداً.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.