إنَّ وضع المشاكل الاجتماعية تحت المجهر الأدبي يتطلب استعداد القارئ بضمادة ليضعها على ذاكرته كلما تسبب سرد التفاصيل في نزيف حاد لذكرياته حتى وإن لم يكن أحد ضحاياها؛ فهنا رواية كشف فيها كاتبها وجدي الأهدل الكثير من مواقف ومُسلَّمات ساهمت في تكوين مجتمع يُتقن دسَّ العقد النفسية في جوف المرأة وهو مستمسكٌ بعنقها لسدِّ مجرى حياتها وكأنها الهدف الوحيد لذكور مجتمعها من بين ازدحام آلاف الانشغالات, وبين واقع حقيقي وخيال تدعمه نظرة الكاتب في روايته “بلاد بلا سماء” إسقاطات دلالية لمزيد من الكشف الفني لهذه المُسلَّمات التي حُجِب عنها نور المعرفة لتُلقي بسهام الذنب على المرأة دائماً ودونما سبب.
البُعد الرمزي في تكوين الواقع الاجتماعي
ستة رواة سلَّطوا نظراتهم على القضية من زواياهم المختلفة صانعين لها أبعاداً رمزية في تكوين الواقع الاجتماعي, تضمَّن سياق السرد الروائي رمزيات ضمنية لأبرز محطات الرواية بدءاً من عنوانها “بلاد بلا سماء” في إشارة إلى ضيق أفق البلاد وانعدامها من أي سماء تتسع للقيم العالية والمعرفة السامية, بلادٌ تنعدم فيها آفاق الوعي الرحبة مما أدى إلى انتشار داء الجهل وتفشِّيه.
تسلِّط الرواية الضوء على واحدة من أكثر مشاهد تمجيد العذرية التي يراها المجتمع معياراً لتحديد سعر المرأة وتحديد نظافتها كبضاعة في سوقه؛ تجسُّ فيه أصابعُ سماء جسدَها في إشارة إلى أن جسد الأنثى – في مجتمع كمجتمع الرواية – ليس ملكاً للمرأة, إنما هو للأسرة والقبيلة والمجتمع, وَجَب الحفاظ عليه كسلعة صالحة للبيع, إذ يكشف السرد الروائي بعداً رمزياً في الرواية مزيحاً الغطاء الكاذب عن عورة وحيونة المجتمع على الصعيدين النفسي والاجتماعي لبعض شخصيات النص وأحداثه المتتالية, والذي يدَّعي أفراده الفضيلة كما وصفتهم سماء: “الذكور في بلادي علمانيون على طريقتهم الخاصة، فهم يفصلون المسجد عن واقع حياتهم، فهم في المساجد يصلّون بخشوع وتقوى، ويتمثلون الأخلاق الحميدة، وما إن يخرجوا إلى الشارع تنقلب أحوالهم إلى الضد فينسون الله ويتكشفون عن شياطين شريرة تمارس الختل والكذب والغش والجري وراء المتع المحرمة”, ولا يرى في المرأة إلّا فريسة ينشب عليها الصراع المهول لقطعة اللحم العفنة حدِّ تعبيرها، ومن نظرات العامل الجائعة لها وصوته الحيواني المتوحش إلى تدلّي فك الدكتور عقلان كخطم ذئب، ومن يمدُّ أظلافه لمغابن أصابعها إلى من ينشب مخالبه في لحمها وغيرها من الصور الرمزية ذات البُعد التهكّمي لواقع اجتماعي هش في ركائزه لا يقوم إلا على الغرائز الحيوانية, حتى الكهل في مجتمع الرواية لم يكد يخرج من الجامع وبيده حذاؤه, ينظر إليها متلمظاً بشفتيه وكأنه يتمنى عضّها! فهي رمزيات تؤكد حيونة المجتمع وتكشف الأبعاد النفسية له؛ إذ تُعامَل كسلعة أو فريسة يتقافز إليها كل واحد منهم ليكون لحمها من نصيبه ويحظى بالمتعة معها دون تدخل الوعي.
أما من الناحية الاجتماعية فقد صوَّرها السرد الروائي في سعار وغليان أبناء القبيلة رمزاً كافياً لإثبات أنهم يرون أن هذه السلعة ملكيتهم والحفاظ عليها وبيعها من صميم مسؤولياتهم وضياعها عار سيلحق بهم, وكذلك تهديدهم والدها بأنهم إذا عثروا عليها ولم يجدوها بِكراً فإن ألف رصاصة ستمزقها؛ إذ يرونها سلعة للبيع, وماذا سيفعلون بسلعة فاسدة؟ وكل هذا يؤكده قولها: “كل من حولي يشعرني بأنني لست بشراً لي عقل وروح، وإنما أنا مجرد أداة للمتعة، اختزلوا وجودي الإنساني في مثلث صغير نجس وأهملوا الباقي, صراع مهول على قطعة لحم عفنة!”.
إشكالات معرفية وأخلاقية متطبعة
من الموازي لانتشار الجهل وجود دناءة أخلاقية, وظهور استصعاب معرفي لا يسمح بمرور الحياة دون ضرائب, فاستصغار الأنثى وعبوديتها للرجل إثبات لرجوليته وفحولته حسب ما تترجمه قواميس الشرف لديهم, أما انتزاع رغباته منها تسلية ممتعة بالنسبة له, والاستيلاء عليها انتصارٌ عظيم, والقتل عذرٌ وهميٌّ وحلٌ فوري للتخلص من العار وتطهير السمعة والاحتفال بتحقيقه أرقى مراتب الشرف في سباقهم الحيواني هذا, أما اللجوء للشعوذة فهو الحل الأمثل لإخماد نار القبيلة التي أضرمها الجهل وما أخمدها وهمٌ إلا هو, فتسفك القبيلة دم جارها البريء علي نشوان ليكون حلٌ فوريٌّ لتطهير شرفهم, وبعد كل جرائم الجهل هذه تلجأ للشعوذة لاستئصال قصة اختفاء ابنتهم سماء من بلعوم الشارع الذي لغي في شرفهم كثيراً, وتقنعه بأن جنياً عاشقاً لابنتهم اختطفها.
ولا يختلف الحال كثيراً خارج بيت سماء عن داخله؛ إذ إن والدها وقف بين يدي شيخ القبيلة صاغراً يكاد يقتله الذل معتذراً له عن اختفاء ابنته, ووعده بتطهير شرفه بنفسه فور إيجادها, وعاتب أمها كثيراً على سوء تربيتها على الرغم من عدم وجود أي تأكيد على هربها, وكان من المفترض الخوف عليها بعد اختفائها في ظروف غامضة ومعطيات مخيفة لا توصل إلى حل واضح بدل الخوف من نظرة القبيلة, ولكنه رأى أن كل هذه التصرفات ستجعل القبيلة تسامحه لما اقترفته ابنته من ذنب لا يُغفر, أما أم سماء فقد سيطرت عليها فكرة أن جنياً عاشقاً اختطفها على الرغم من عدم إيمانها وقناعتها التامة بالفكرة ودفاعها في نفسها عن ابنتها, لكنها كانت حلاً – ولو مؤقتاً – لتخفف عنها وعن القبيلة فكرة أن ابنتها هربت مع عشيقها الإنسي.
إن السبب في كل هذا هو انعدام البلاد من سماوات الوعي الرحبة, مما جعل الجهل متحكماً في كل مفاصلها, وإن كان هنا ترميزٌ بصورة أدبية مفعمة بالخيال, فما هو إلا انعكاس لواقع يتطاير شررٌ كلما وردت السماوات التي يرى المجتمع أنَّها عورته, ولكنَّ جميعنا يعلم ماذا حلَّ به عندما اختفت سماء وكُشِفت عورته حقاً.
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).
قراءة نقدية ممتازة تكشف الكثير من المضامين المتوارية وراء السطور. اعتزازي الشديد بهذه القراءة النقدية، وكل الشكر والتقدير لكاتبتها سمية الحبابي.