تقف أمام أكثر من ثلاثين شخصًا، في قاعة مغلقة، تحمل الميكرفون، تعرّف بنفسها، وتتحدث من قلبها عن طبيعة عملها وما تواجهه من تحديات، الجميع ينصت لها باهتمام بالغ؛ امرأة بنبرة مختلفة، ولبس غير معتاد، تحكي عن ما تواجهه كروتين يومي في عملها الذي وجدت حالها فيه دون مقدمات؛ كأنه فرضية اجتماعية، وتقليد سارٍ، عليها أن تقوم به!
أنهت مداخلتها بعد عشر دقائق من حديث فاض بما في مكنونها منذ سنوات، أعقبها تصفيق حار وتبادل لنظرات الإعجاب بما قالته بين الحاضرين، ترد عليهم بابتسامة غير مكتملة، وتعود إلى مقعدها متفحصة ردود فعلهم وتعابير وجوههم بعد أن قالت ما لم يسمعوه من قبل.
هكذا كانت الفرصة الأولى لريم سعيد؛ لتتحدث المرأة الأربعينية التي تعمل في النظافة والتحسين بمدينة تعز (وسط اليمن) عن تجربتها بشكل مباشر أمام الملأ، كان ذلك في ورشة خصصت لمناقشة التحديات التي تواجه النساء المهمشات العاملات في مجال النظافة والتحسين في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
وصم ومشقة!
تعاني النساء المهمشات في اليمن من انتهاكات تطال حياتهن اليومية، وتأتي العنصرية على رأس قائمة تلك الانتهاكات وبالأخص النساء العاملات في مجال النظافة، فأغلب النساء العاملات في مجال النظافة يعملن بنظام السُخرة والأجر اليومي، بمقابل زهيد، لا يمكنهن من الإيفاء بمتطلبات الحياة الضرورية، حيث يعلن غالبيتهن أسرهن، جراء اعتمادهن على ما يطلقن عليه وظيفة، وهي ما يمكن اعتباره مصدر دخل شبه دائم أو مضمون؛ إذ لا يعمل غيرهن من الفئات الأخرى في ذات المجال.
مجال دفع ريم لمواجهة التحديات المترتبة عليه؛ فهي لا تكتفي بمشقة العمل الذي يبدأ قبل شروق الشمس ولا وقت معلوم لانتهائه، وتقوم خلاله بتنظيف الشوارع من المخلفات بأدوات وإمكانيات بسيطة، ودون ضمان لأدنى حقوقها، كما تقول.
وتضيف ريم: “عملي صعب، فيه الكثير من التعب يوميًا، ولو قلنا نرتاح ما نلقى تجاوب خاصة النساء، لازم نقوم بدري، ونخرج للنطاق المحدد لنا، وإذا حدث أي تقصير لأسباب طارئة تتخذ ضدنا إجراءات مباشرة مصحوبة بكلمات الاستنقاص؛ لأننا مهمشات”.
تواجه ريم هذا الوضع بشكل يومي، تعيش تحت رحمته، ولا مصدر آخر لديها؛ فالعمل الذي هي فيه توارثته فئتها، وكأنه محصور بها، وزاد على ذلك أنه إضافة إلى مشقته وتعبه صار سببًا للاستنقاص والتهميش، وهو ما يؤثر عليها وعلى أسرتها، حسب تعبيرها.
استنقاص لا محدود
المعاناة التي تواجه النساء المهمشات العاملات في مجال النظافة تحولت إلى تمييز يتعرضن له ضمن تنميط اجتماعي يحصر المهنة بهن، ولا يبقى ذلك رهين المرأة التي تقوم بالنظافة بل ينتقل إلى أسرتها، وحتى أطفالها في المدرسة والشارع، وهو ما يكرس التمييز الطبقي، ويوجه عنفًا مركبًا تجاه المرأة المهمشة والعاملة في مجال النظافة على وجه الخصوص.
هذا هو الحال مع ريم؛ فابنيها يواجهان تنمرًا واستنقاصًا مباشرًا في المدرسة؛ كونهما من فئة المهمشين، ولأن أمهما تعمل في مجال النظافة، ما يعني أن الوضع تجاوز نطاق عملها في الشارع، وأصبح ملازمًا لأسرتها وأولادها.
حالة تعبر عنها ريم بتنهيدة ونبرة غلب عليها الألم: “لا علاقة لأولادي بعملي، لكن المجتمع لا يعير ذلك اهتمامًا ويتخذه سببًا للاستنقاص منّا”، وتتساءل: “كيف ستكون الشوارع والحواري والمدن بدوننا؟”.
استنقاص يضيف إليه عبده سعيد رئيس مؤسسة المستقبل للتنمية، وناشط مدني في قضايا المهمشين، وموظف في صندوق النظافة والتحسين بمحافظة تعز عددًا من الانتهاكات المركبة؛ “إذ تواجه النساء العاملات في مجال النظافة تمييزًا في المستحقات التي تعد غير رسمية، وكذا عدم توفير أدوات السلامة والحماية أثناء العمل، إضافة إلى انعدام الالتزام بتطبيق قانون العمل أسوة ببقية المؤسسات حيث لا تمنح النساء إجازات وضع ورضاعة المولود، ولا حتى إجازات مرضية، يضاف لذلك قلة التأهيل والتدريب على كافة المستويات، وعدم وجود تأمين صحي للعاملات الميدانيات في النظافة”.
إضافة إلى “عدم وجود عقود رسمية للعاملات في مجال النظافة، حيث يستلمن رواتبهن من باب المساعدات والدعم وليس من باب الأجور، وهذا ما يجعلهن على حافة الخطر”.
ممارسات تؤكدها الصحفية المتخصصة في قضايا المهمشين غدير العدني، وتعتبرها: “نتاج تراكمات تاريخية يدفع المهمشون ثمنها من أسلوب حياتهم وطرق التعامل الطبقي معهم”.
حلول بلا أمل!
هذه الوضعية تجعل المرأة المهمشة العاملة في مجال النظافة أمام تحدٍ صعب؛ فالحلول الممكنة في ظل الأوضاع الراهنة تكاد تكون معدومة، والمقترحات التي تطرح لا تجد من يستجيب لها إلا في حالات شاذة، وهو ما يعني ضرورة الثقافة القانونية للنساء العاملات في مجال النظافة بحيث يكنّ على وعي ودراية بما لهن وما عليهن، وبما يضمن تطبيق قانون العمل، وفقًا لما قالته المحامية والناشطة الحقوقية رغدة المقطري.
وتضيف المقطري: “لا نريد تمييزًا آخر وفرزًا لحقوق النساء المهمشات، بل هناك قانون يجب أن يطبق، ولائحة تنفيذية لصندوق النظافة والتحسين على المعنيين اتباعها”.
وتواجه النساء المهمشات العاملات في مجال النظافة العديد من الصعوبات المصحوبة بممارسات تعسفية نتيجة التهميش الطبقي القائم على العادات والتقاليد، وبسب استنقاص مهنتهن التي توارثنها جيلًا بعد جيل.