سيدة الغناء العربي، كوكب الشرق أو كما تُعرف بـ “أم كلثوم”، أبرز مغنييّ القرن العشرين؛ فإضافةً لجمالِ صوتها وقوته، اُشتهرت أم كلثوم أيضاً بإطلالتها الاستثنائية على المسرح، ملوحةً
بمنديلها الحريري ومرتديةً نظاراتها السوداء داخل القاعات المغلقة، حيث لا يمكننا تذكر “كوكب الشرق” من دون هذه الإكسسوارات التي كانت تلازمها أينما حلت.
لم يكن اسم أم كلثوم سوى كنية لها فاسمها الحقيقي هو فاطمة بنت إبراهيم السيد البلتاجي، أبصرَت النور في محافظة الدقهلية عام 1904 في أسرة متواضعة يسيرة الحال في ريف طماي الزهابرة. بدأت تشدو منذ نعومة أظافرها مشاركةً والدها في الغناء والتغريد بالأفراح، ولأنه لم يكن يُسمح للفتيات بالغناء حينها؛ فكانت تُخفي ملامحها الأنثوية بلبس العِقال وملابس الصبيان.
بدأت مشوارها الفني وعمرها اثنى عشر ربيعاً، حينها تعرف والدها على الفنان “ابو العلاء محمد” الذي كان أول من اكتشفها عندما سمعها تدندن في إحدى مقصورات القطار؛ فأُعجِب بحنجرتها الذهبية، ليقوم بعدها بإقناع والدها بالانتقال إلى القاهرة.
آسرةً قلوب جميع مَن سمعوا غنائها حين أحيَت ليلة الإسراء والمِعراج في قصر عز الدين باشا؛ بدأ نجم أم كلثوم يسطع أكثر ويزداد بريقاً مع كل حفل، حيث أصدرت ألبومها الخالد في عشرينيات القرن الماضي الذي غنّت فيه قصيدة “وحقك انت المُنى والطلب”.
كان شغفها المُتّقد بالغناء السبب الأساسي لزواجها الوهمي من الشيخ عبد الرحيم على الورق – والذي استمر لثلاثة أسابيع فقط – وذلك من أجل إحياء حفلاتها في العراق؛ فالقانون وقتها كان يمنع سفر المرأة غير المتزوجة خارج البلاد، شهدت حياتها العاطفية تقلبت عديدة ً كتقلّب مقامات صوتها البديع، ومحطمةً لقلوب الأُمراء حيث أنها رفضت الزواج من الأمير شريف صبري باشا شقيق الملكة نازلي.
مرت أم كلثوم بفترة صعبة حين تم منع أغانيها من العرض في الإذاعة الرسمية بعد ثورة الضباط الأحرار باعتبارها من مطربات العهد الملكي؛ لكن سرعان ما تم رد الاعتبار لها وتم تعيينها كسفيرة لمصر عام 1967 بعد أحداث الحرب، كونها أيقونة شعبية ورمزاً لمصر، واستمرت بالغناء حائزةً على مسيرة فنية متألقة حافلة بالأوسمة والجوائزِ من أكبر المحافل المحلية والعربية.
ومع تقدمها في السن أُصيبت أم كلثوم بفرط نشاط الغدة الدرقية (Gravis disease), الذي وصفه لأول مره الطبيب الفارسي “سيد إسماعيل الجورجاني” بالقرن الـ12 في كتابه “كنز شاه خوارزم” وسُمي على اسم الطبيب الايرلندي “روبرت جيمس جريفز”، والذي كانت له أسباب مناعية ووراثية عِدّة، الأمر الذي حطم مسيرتها في التمثيل وأبعدها عن أضواء السينما بعد أن مثّلت ستة أفلام فقط، ويتميز هذا المرض بأعراض منها جحوظ العينين وترهل الجفنين ورعشة في اليدين والتعرق المستمر وتضخُّم في الغدة الدرقية، ولذلك فقد كانت ترتدي النظارة السوداء مُداراةً للجحوظ في عينيها ومستخدمةً المنديل الحريري بسبب التعرق المفرط من راحةِ يديها ولِتُسيطر على الرعشةِ كم قالت ممازحة في حوار إذاعي: “الناس تعتقد إن المنديل زينة، ولكن لم يعرف أحد إني أقلق من الجمهور وأعمل له ألف حساب، وهو ده سر المنديل”.
لم تُجرِ كوكب الشرق العملية الجراحية في الغدة الدرقي كونها قريبة من الحبال الصوتية، وخوفاً على صوتها حيث أنها لم تحصل على ضمانات مؤكدة من الأطباء أن صوتها لن يتأثر في العملية؛ لذا آثرت السفر الى أمريكا ولاية ميريلاند عام 1953 للخضوع للعلاج بالأيود المُشع – الخطرة جداً أنذاك – بدلاً من العملية الجراحية، واستمرَّت صحتها بالانحدار الى أن انطفأت شموع الشرق برياح الزمن الغير رحيمة وتوفيت عام 1975 بسبب مضاعفات الفشل الكلوي، وحضَرَ جنازتها أكثر من أربعة ملايين حزين على روحها ومحب لفنها.
حياة أم كلثوم البرّاقة منذ طفولتها البسيطة، وحياتها الفنية، والعاطفية المتقلبة، وحتى صراعها مع أَوج وضعها الصحي، وتضحياتها في سبيل الغناء وإسعاد الجماهير؛ نموذج وقدوة لكُل شخص يعاني من تغيُّرات الزمن والحياة، وسواءٌ أكنتم على نفس قدر شجاعة أم كُلثوم في المخاطرة بحياتكم من أجل الشغف والمستقبل الفني أم لا؛ فإن الجميعَ متفقٌ على أن الحياةَ لا يمكن أن تُعاش إلا إن لامَسنا الموتَ قليلاً، وهذا ماواجهته “السِت”، فكانت ولا زالت تلك الإطلالة المميزة بالنظاراتِ السوداء السميكة والمنديل الحريري الذي تم التلويح بهِ بإحساسٍ وعاطفة لمئات المرات أيقونةً للتضحية والشغف ورمزاً للفَن العربي الأصيل.
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).
بالسر الرهيب، أسلوب الكاتب ماشاء الله أخاذ.
جميل جداً.👌