أتجنى على البن لو سميته مجرد نبتة أو محصول. البن رائحة الحياة طعمها. من منا لا يربط رائحة البن برائحة البيت، بغرفة معيشة ما، بوالدة وجدة وبصباح تظل تستدعيه بكل حنوه ورائحة قهوته.
والبن طقس جماعي تسوره البهجة والأنس، إذ لا أذكر أنني شربته وحيدا منذ تعلمت شربه. طقس يختلف من مكان لآخر ومن ثقافة لأخرى والكن القاسم المشترك هو طابع الاسترخاء والرضا والحديث المسترسل الذي ينسرب للقلب مباشرة، فالبن نشربه مع من نحبهم.
أحن، ما زلت، لطقوسه في مدينة أديس أبابا بأعالي الهضبة الأثيوبية المطيرة، هناك حيث يتحلق الناس لشربه في مشهد أقرب لطقس العبادة الصامتة، والذي يستغرق زهاء الساعتين ونيف قبل أن يمد إليك الفنجان الأول بانحناءة بالغة التهذيب من فتاة خجولة مطرقة طوال وقت إعداده.
الرفق هو ميثاق المشهد بكامله. هو مسرح في الحقيقة خشبته مساحة صغيرة مفروشة ب عشب الأخضر تزين اطرافه زهور صفراء، تراه يباع في حزم صغيرة تحملنها النسوة للمساكن الصغيرة الدافئة التي تفوح منها رائحة البخور في نهارات ممطرة جل أشهر السنة.
تتوسط المكان فتاة تجمع بين الجمال والخجل، تشرع في رص الأواني وغسل البن برفق بالماء بأطراف منعمة ، قبل أن يترك ليجف على حافة الجمر. في الاثناء يوضع الماء في إناء فخاري ذو عنق طويل مستقيم ورشيق. في الخلفية تسمع صوت “أستير أوكا” أيقونة الغناء الاثيوبي، تغني الحب ولا تشكو جور الحبيب كدأبنا. حين يسحن البن ويوضع مسحوقه في الماء المغلي يوضع بذات الرفق أيضا وتتفحصه الفتاة بعناية وكأنها تبادله سرا يعرفانه.
حين يمد الفنجان الأول يكون الأنس قد بلغ ذروته، فيشرب الفنجان كنخب لهذه الذروة.
أتخيل أن زراعة البن ستحل محل القات تدريجيا في اليمن، وسيحدث ما ينادي به المناهضون لاستخدام القات، استبدال ثقافة التخزين بثقافة أخرى تحمل خصوصية المجتمع اليمني، تميزها أحاديث تشبه بهجة البن تحل محل أحاديث التخزين التي تتفجر فجأة وتسكن فجأة، أنس وحديث لا يمحوه النهار هذه المرة.