“وكي نصوغ مسارات جديدة نحو الحلول المطلوبة. ومن أجل أن نبلغ هذه الغاية بخطوات ثابتة، نحتاج إلى النظر فيما نجح في الماضي واستخلاص العِبَر منه.” من خطاب مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أثناء حديثه حول أهمية التعلم من التجارب السابقة فيما يتعلق ببناء السلام وإشراك النساء.
تُعد مشاركة النساء في مفاوضات السلام أمرًا حاسمًا لتحقيق استقرار طويل الأمد في المجتمعات التي تشهد صراعات. في عدة دول حول العالم، مثل رواندا وإيرلندا الشمالية، كانت النساء في مقدمة المشاركين في عمليات السلام والانتقال السياسي، مما أثمر عن اتفاقيات شاملة واستقرار دائم.
اليمن، الذي ما زال يعاني من تبعات الحرب والنزاع، يمكن أن يستفيد من هذه التجارب العالمية لتعزيز مشاركة النساء في مفاوضات السلام. في هذا التقرير نسلط الضوء على بعض التجارب العالمية لمشاركة المرأة في مفاوضات السلام والعمليات الانتقالية وكيف يمكن الاستفادة منها في السياق اليمني وذلك من خلال التركيز على تجربة رواندا وإيرلندا الشمالية.
التجربة الرواندية
تُعتبر تجربة رواندا في إشراك النساء في بناء السلام والمصالحة بعد الحرب نموذجًا مثيرًا يُحتذى به، وخاصةً في سياق الدول التي تعاني من النزاعات. بعد الإبادة الجماعية في عام 1994، كان للنساء في رواندا دور محوري في عملية إعادة البناء والمصالحة، شكلت 70% من سكان البلاد بعد الحرب مما أتاح لهن فرصة تولي أدوار قيادية ومساهمة فعالة في بناء السلام وإعادة بناء الدولة.
عملت النساء على مبادرات مجتمعية عديدة لتجاوز أثار الإبادة الجماعية والتأسيس لبناء السلام والتعايش، حيث قامت النساء بدور كبير في تقديم الرعاية للأيتام الذين فقدوا عائلاتهم خلال الإبادة. أنشأت العديد من المبادرات التي توفر الدعم النفسي والاجتماعي والتعليمي للأطفال الذين تأثروا بالأحداث. عملت النساء أيضا على تقديم الدعم للعائدين من النزوح، بما في ذلك المساعدة في إعادة إدماجهم في المجتمع وتوفير الاحتياجات الأساسية مثل الإسكان والغذاء. كما كان للنساء مساهمات كبيرة في دعم الاقتصاد من خلال المشاركة في المشاريع الصغيرة والمبادرات الاقتصادية التي تسهم في تحسين الظروف المعيشية وتعزيز النمو الاقتصادي المحلي.
كما لعبت النساء دورًا أساسيًا في جهود المصالحة الوطنية، حيث شاركت في لجان المصالحة ووسعت برامجها لتشمل المجتمعات المحلية وتعزيز التعايش السلمي بين الفئات المختلفة، وقدمت النساء الدعم النفسي للناجين من الإبادة، من خلال تنظيم ورش عمل وبرامج علاجية لمساعدة الأفراد على تجاوز الصدمات النفسية وإعادة بناء حياتهم.
حضور النساء بعد الحرب ساهم في تبني سياسات تشجع على تمثيل النساء في جميع مستويات صنع القرار، حيث ينص الدستور في رواندا على تمثيل النساء في مراكز صنع القرار بنسبة لا تقل عن 30%، بفضل الجهود النسائية والسياسات التي اتخذتها الحكومة الرواندية أصبحت رواندا من بين الدول الرائدة عالميًا في نسبة مشاركة النساء في البرلمان، حيث تتجاوز النسبة 60%، بالإضافة إلى نسب مشاركة عالية في مراكز صنع القرار على المستوى الوطني والمحلي.
تُعَد تجربة رواندا مثالًا بارزًا على كيفية أن مشاركة النساء في عمليات بناء السلام والمصالحة يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا في تحقيق الاستقرار والتنمية. هذه التجربة تقدم دروسًا قيمة يمكن أن تكون ملهمة للنساء في اليمن، اللاتي يمكنهن أن يستفدن من هذه التجربة لبناء شبكات دعم قوية وتعزيز مشاركتهن في مفاوضات السلام، مما يعزز فرص تحقيق استقرار دائم وتنمية مستدامة في البلاد.
تجربة إيرلندا الشمالية
من الأمثلة الناجحة على مشاركة المرأة في مفاوضات السلام، مشاركة النساء في أيرلندا الشمالية في محادثات طاولة المفاوضات في عام 1996م، بعد أن رفض طلبهن بإلزام الأحزاب بتقديم قوائم متوازنة بين الجنسين للممثلين للانتخابات المقبلة إلى منتدى أيرلندا الشمالية للحوار السياسي وعندما تم تجاهل هذا الإجراء بشكل فعال ونشرت الحكومة أفكارها حول النظام الانتخابي ، قامت مجموعة من النساء بقيادة مونيكا ماكويليامز بتأسيس ائتلاف المرأة في أيرلندا الشمالية (NIWC) في عام 1996، من قبل مجموعة من النساء الناشطات بهدف زيادة تمثيل المرأة في المفاوضات السياسية، خاصةً مفاوضات السلام. وعلى الرغم من التحديات التي واجهها الائتلاف، مثل محدودية الموارد والتشكيك من قبل الأحزاب السياسية الأخرى، إلا أنه تمكن من حشد الدعم الشعبي والسياسي، مما أهله للفوز بحوالي 10,000 صوت من كافة أنحاء أيرلندا الشمالية، وهو ما يكفي لضمان تمثيله في المفاوضات، حيث تم تمثيله بمقعدين في المفاوضات. لقد كانت استراتيجيتهم تتلخص في تنظيم النساء من خلال شبكاتهن المختلفة واتصالاتهن المختلفة للحصول على الحد الأدنى اللازم من الأصوات.
بدأت مسيرة الائتلاف باجتماع ضم حوالي 150 امرأة، وسرعان ما توسعت هذه المشاركة. وبذلك، ساهم الائتلاف بشكل فعال في إدراج قضايا المرأة والمساواة ضمن أجندة المفاوضات، مما يعتبر إنجازًا كبيرًا في سياق الصراعات السياسية.
هل يمكن الاستفادة من التجربتين في اليمن؟
تُعتبر تجربة نساء أيرلندا الشمالية نموذجًا ملهمًا للنساء في جميع أنحاء العالم، حيث أثبتن أن التنظيم النسائي والعمل الجماعي يمكن أن يكون لهما دور حاسم في بناء السلام وتحقيق التغيير الاجتماعي.
هذا النموذج يقدم دروسًا قيمة للنساء في اليمن، حيث يمكنهن الاستفادة من هذه التجربة لتشكيل ائتلاف قوي يضم كل التكتلات والمبادرات النسوية من مختلف التوجهات لتبني صوت وأحد يضغط من أجل إشراك النساء في مفاوضات السلام.
الصحفي والمدرب في قضايا النوع الاجتماعي وبناء السلام بسام غبر، “يمكن للنساء اليمنيات وصناع القرار في اليمن الاستفادة من تجارب النساء في رواندا وأيرلندا الشمالية، حيث أثبتت النساء هناك قدرتهن على إحداث تغيير كبير في عمليات بناء السلام. تجربة رواندا، التي شهدت زيادة كبيرة في تمثيل النساء، وتجربة أيرلندا الشمالية، حيث نظمت النساء أنفسهن لتعزيز تمثيلهن في المفاوضات، تقدمان دروسًا قيمة.”
وأضاف:” النساء اليمنيات أظهرن قدرتهن على النجاح خلال فترة الحرب، ويجب منحهن الفرصة الكافية للمشاركة في صنع القرار ومفاوضات السلام. إن إدماج النساء في هذه المجالات ليس فقط حقًا أساسيًا لهن، بل هو ضرورة لتحقيق استقرار دائم وتنمية مستدامة في اليمن.”
ومن جانها تؤكد وداد البدوي رئيسة المركز الثقافي الإعلامي، على أهمية التجارب الدولية في تعزيز دور النساء في عمليات السلام، مثل تجارب رواندا وإيرلندا الشمالية، حيث أثبتت النساء هناك قدرتهن على تحقيق تغيير إيجابي في بناء السلام والاستقرار بعد النزاعات. كما تمثلان نماذج ملهمة للنساء اليمنيات اللواتي يمتلكن القدرة على تقديم نماذج مماثلة إذا ما تم دعمهن بشكل مناسب.
وأشارت أيضا إلى أن البيئة اليمنية تدعم الدور الإيجابي للنساء، وأنهن إذا ما نظمن أنفسهن بشكل جيد وقدموا نموذجًا نسويًا مستقلًا وخاليًا من الأجندات السياسية، فإنهن سيستطعن إحداث فرق كبير في عملية السلام في اليمن، مما يعزز فرص تحقيق استقرار دائم وتنمية مستدامة.
من جهة أخرى، تحدثت وداد حول ضعف التنسيق بين النساء المتحزبات والأحزاب التي ينتمين إليها، وأوضحت أن هذا الضعف يحد من تأثيرهن السياسي على مستوى الأحزاب والمستوى المحلي، رغم الجهود المجتمعية الكبيرة وحضورهن الدولي المميز. أكدت أن النساء الحزبيات قد ينجحن في مهام حزبية معينة، لكنهن يواجهن صعوبة في التأثير على قضايا السلام بشكل فعال. وأشارت إلى ضرورة تحسين التواصل والتنسيق بين النساء والأحزاب السياسية لضمان تأثير أكبر على ملف السلام وتعزيز دورهن في صنع القرار السياسي المحلي.