وسط زحام الصرخات والعويل، أصرت فكرية أن السيدة العجوز التي تلتهم النيران كوخها الخشبي في حارة شعبية بمدينة عدن، جنوب اليمن، مازالت عالقة فيه، عندما قال آخرون إنها قد تمكنت من الفرار. وبإصرار طلبت إحضار لحاف وشاركت في إخراج العجوز التي كانت النيران قد لامستها وأحرقت أجزاءً منها.
بدت فكرية واثقة من نفسها، وهي تقود أعمال إنقاذ في الحارة الشعبية التي تزدحم بأكواخ خشبية تحولت أجزاء منها إلى هشيم، وقامت بفتح خزانات المياه فوق أسطح المنازل المجاورة لإطفاء الحريق بعد أن أخفقت عربات الدفاع المدني عن الوصول إلى الحارة الملتصقة بتلة من جبل شمسان، تعلوها تلة أخرى وقف مسؤولون محليون تحت ظل نخلة تنتصب فيها، يراقبون أعمال الإنقاذ.
تقول فكرية خالد (48 عاماً) اليوم بعد مضي عشر سنوات على الحادثة وهي تشير من نافذة منزلها إلى كوخ خشبي وسط أكواخ متلاصقة إن “العجوز التي كان سكان الحارة يطلقون عليها اسم شُقى، لشقاوتها، كانت هي السبب في اندلاع النيران التي خلفت أضراراً مادية وبشرية”، لكن شُقى الشقية نجت بحياتها وهي تعيش اليوم في دار للمسنين، وتقوم فكرية بزيارتها بين الحين والآخر.
تشتهر الحارة التي تسكنها فكرية باسم “حارة الوحش“، ويقول سكان حارات مجاورة إن الحارة، التي تكتظ بالمهمشين، تكتظ أيضاً بحوادث الانفلات الأمني، والمشاكل الاجتماعية، والبطالة، والسرقات.
بعد أشهر من الحادثة، أصبحت فكرية عاقلة الحارة، وهو منصب حكر على الرجال، منذ اعتماده تحت مسمى “شيخ الحارة“، عقب سنوات من حرب العام 1994.
تقول فكرية إن سكان الحارة أحاطوا بمحافظ عدن حينها “يحيى الشعيبي“، ومأمور المديرية، الراحل، أحمد علي سعيد، في زيارة تفقدية، وانتقدوا إهمال السلطات، واختاروها لتكون “شيخ الحارة”، وذلك بعد أن تعذّر المسؤولان بأن الحارة ليس فيها “شيخ” ليكون حلقة الوصل معهم، وتعتقد فكرية أن وجودهما يوم الحريق فوق التلة يراقبان أعمال الإنقاذ هو ما زكاها ليعتمداها كأول عاقلة حارة في البلد والجزيرة العربية، بعد أن كانا قد اعتمداها عقب الحريق ضمن لجنة الإغاثة.
مهام
إلى جانب كونها أرملة وأماً لولد وابنتين، وعملها في جمعية المرأة للتنمية المستدامة المنبثقة عن قطاع التأمينات والشؤون الاجتماعية، وهو أمر يفاجئ كثيرين يعتقدون أنها سيدة غير متعلمة ولا تعمل، تمارس فكرية اليوم عملها كعاقلة حارة، وتقول إن من ضمن مهام العاقل أو الشيخ لكل حارة، حل مشاكل السكان، وتوفير أعمال للعاطلين ودمجهم في المجتمع، ومعرفة المواليد والوفيات، والتعرف على المستأجرين، والعمل كمندوب تعريف (معرّف) في بعض الإجراءات القانونية المطلوبة من السكان، وتضيف أنها نجحت في إيقاف تسول بعض الفتيات، وإخراج بعض الأحداث من السجون، وإدخال عاطلين عن العمل في وظائف خاصة أو حكومية أو الحصول على مهن يدوية بالأجر اليومي.
يقول خالد وهو شاب في العشرينات إن أم خالد تنفذ دوريات ليلية “نراها أحياناً في العاشرة أو الحادية عشر ليلاً، تنزل إلى زوايا الحارة وتتحجج بشراء دواء أو حليب. نحن نعلم أنها تترصد المشتبهين”.
وتؤكد فكرية لـ”منصتي 30″ أنها تقوم بذلك لمراقبة المتهمين بسرقة السيارات أو المنازل، “ضبطنا بعضهم وأعدنا مصوغات ذهبية وأشياء أخرى ثمينة”.
وتضيف “نجحت أيضاً في توفير بعض المؤن في شهر رمضان من كل عام، وكسوة العيد، وتوفير رعاية صحية لحالات عولجت بعمليات جراحية، وحالات سرطانية، وبعض ذوي الاحتياجات الخاصة”، وتقول “ساهمت لاحقاً في إنشاء جمعية التآلف للمهمشين، ليساعدوا أنفسهم بأنفسهم”.
معارضة
تؤكد فكرية أن معارضة بعض الرجال لها بينهم زوجها الراحل في بادئ الأمر، لم يحبطها، وتقول: “زوجي عارضني في البداية. كان خائفاً، لكنني قلت له دعني أجرب، وإذا لم أفلح سأترك العمل. وافق على مضض، وتغيرت معاملته رغم العشرة الطويلة”.
وتضيف “بعد ثلاثة أشهر تعرضت سيارتنا لاعتداء، اختلفت مع زوجي وهو رجل أمني، في من يقوم بالتحقيق منا، ثم أقنعته بأن أتكفل بالقضية ووصلت إلى أن الجاني هو شاب أخذنا منه كلباً ضخماً في حملة لمنع الكلاب في الحارة، بعد ذلك تغيرت معاملة زوجي، وأحاطني برعايته وساعدني أمنياً”.
وتفتخر فكرية اليوم “كنت أستمد عزيمتي من الذين راهنوا علي، ورشحوني واختاروني، ومن تاريخ عدن الحافل بإنجازات لنساء رائدات”.