ما عادت المرأة اليمنية بحاجة إلى الدفاع عن حقوقها وعن وجودها ككيان مستقل له رأي ومهام بعيداً عن مفهوم المرأة الضعيفة الواقعة تحت رعاية ولي الأمر في كل شؤونها، فالحرب القائمة في البلاد والتي دخلت عامها الثامن، رغم مساوئها، إلا أن الجانب المشرق فيها أنها وجهت الأنظار حول قدرة المرأة على كسر النمط التقليدي لدورها في المجتمع نحو أدوار كانت حكراً على الرجال دون النساء.
بينما انشغل الرجال في القتال أو الانخراط فيه، عملت النساء في كل منزل ومن وراء الجداران الصامتة، على تهدئة المشاكل وحل الخلافات ابتداءً من الأسرة الصغيرة، محاولةً إيجاد حلول لتفادي ما هو أكبر، وتشجيع الرجل على القبول بالحلول السلمية، فالمرأة وحدها تعي بمشاعرها كأم وزوجة وابنة وأخت، ما تخلفه الصراعات والخلافات من موت وتشرد وانعدام الأمن وضياع.
من أسس المجتمع التقليدي والأعراف القبلية التي تتسم بها اليمن، انطلقت أدوار النساء غير التقليدية وبرزت خلال السنوات الأخيرة المئات منهن على مستوى الاسرة والقبيلة والمدينة، من عملن على قدم وساق في محاولة إرساء السلام المجتمعي والعمل كوسيطات اجتماعيات للكثير من القضايا مثل تبادل الأسرى والجثث، إعادة فتح الطرقات، حل مشكلات الثأر، حل الخلافات بين أفراد المجتمع، تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة، إعادة فتح المطارات، منع الرجال من أسرهن الانخراط في القتال، حل الخلافات بين القبائل، الدفاع عن المعتقلين والمخفيين قسراً، تأمين مناطق معينة، وغيرها من الأدوار التي أرست السلام وقللت من فرص الصراع.
وبرغم قيام الدولة المدنية في ستينات القرن الماضي إلا أن قواعد الأعراف القبلية في اليمن ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، ومن مميزات الأعراف الاجتماعية القبلية احترام المرأة وحمايتها، تقدير حضورها، وعدم الاعتراض لها. صحيح أن هذه القاعدة تضاءلت قليلاً خلال الحرب إلا أن النساء مازلن يتمتعن برعاية وحماية القبيلة، ومازالت المرأة تحظى بالاحترام أينما حلت، ومن هنا اتكأت النساء على هذه الميزة القيام بأدورهن كوسيطات اجتماعيات، ففي حال أن الرجل يمكن أن تقابل وساطته بالرفض إلا أن النساء لديهن خصوصية فائقة وقدرة على إقناع الأطراف المعينة بالصُلح، فضلاً عن قبول الأطراف بمشورتها لاسيما من ذاع صيتها وارتفقت مكانتها العلمية والثقافية والأسرية.
يمكننا هنا الاستشهاد في حادثة قتل شخص بالخطأ، في إحدى القبائل مؤخراً، أُبرِم اتفاق قبلي على الصُلح، ونفي الجاني من القبيلة كعقاب مع دفع غرامة مالية، إلا أن شقيق المجني عليه رفض الصلح القبلي، وقرر الانتقام من الجاني فور خروجه من السجن، هنا لجأت أسرة الجاني إلى إحدى الوسيطات في المجتمع وكانت “انتصار القاضي”، والتي عملت على حل الخلاف بين الأسرتين قبلياً عبر الذهاب إلى منزل شيخ القبيلة، ونجحت في تأمين حياة الجاني وخروجه من القبيلة سالماً معافى بعد أن كانت البنادق موجهة نحو صدره.
في حادثة أخرى حدثت في تعز عندما دب خلاف بين ألوية عسكرية ومكاتب تحصيل الضرائب على ضريبة “القات”، وتطور الخلاف إلى مناوشات مسلحة، هنا برزت دور الدكتورة “ألفت الدبعي”، والتي عملت على قدم وساق في حل الإشكالية بالمطالبة من رئيس الحكومة معين عبد الملك آنذاك في صرف رواتب الألوية العسكرية المتوقفة منذ أشهر، للسماح بتحصيل ضريبة القات إلى المكتب، وافقت الحكومة بعد محاولات متكررة ومتابعة قوية من الدبعي، على ذلك وحل الخلاف ودُفعت الرواتب وحلت المشكلة.
بيد أن تمكين النساء حتى يصبحن قياديات في المجتمع مرهون منذ التنشئة، وهنا نشد على أيدي الأسر لخلق جيل واعي ونساء مستقلات مؤمنات بقدراتهن. بناء المرأة القوية المتعلمة المثقفة يجعلها بالإضافة إلى أسرتها محل تقدير واحترام في المجتمع، وبالتالي فإن أي دور تقوم به يكون ذو أثر طيب ومقبول لاسيما عند صناع القرار والمكونات السياسية.
دعونا نعود إلى الحالمة تعز، عندما برزت أزمة الغاز المنزلي والطوابير الطويلة والمشادات الكلامية والتي كانت تتطور أحياناً إلى عراك وأحياناً أخرى إلى إطلاق نار في أحد أحياء المهمشين، قامت إحدى النساء الناشطات في مجال الوساطة المجتمعية وهي “مسك المقرمي” التي تنتمي إلى فئة المهمشين، وعملت على التنسيق مع وكلاء ومستوردي الغاز في المحافظة، بالمقابل حددت للحي كروت تعبئة في فترات معينة، ووجهت عبر وجهاء وأعيان المنطقة إلى الالتزام بالمواعيد المحددة، وحلت مشكلة الغاز وعراك الغاز.
تتجلى أمامي العديد من المواقف لمن عملن على الإفراج عن المعتقلين ومن طالبن بإظهار قائمة المخفيين قسراً، من عملن على تأمين مناطق معينة، من ناضلن ووقفن ضد الصراع عبر المنابر الدولية والإقليمية، من عملن على فتح المدارس المغلقة وإعادة الحياة فيها.. وغيرهن، ولست هنا من أشيد بامرأة عن أخرى، فإذا أردنا الحديث عن مساهمة النساء الفاعلة في الوساطة المجتمعية لن نكمل مجلدات، فهناك الكثير والكثير من المواقف التي يمكن الاستشهاد بها كواقع ملموس وليس مجرد دعاية، منهن من ذاع صيتها ومنهن من مازالت تعمل من وراء الكواليس.
في لحظة شرود، وأنا أفكر كيف أغلق مقالي بخاتمة موجزة ومنصفة للمرأة الوسيطة ودورها الإيجابي، إذا بي أسمع أصوات صراخ تأتي من الشارع الذي أسكن فيه، تلتها إطلاق أعيرة نارية، إثر خلاف تطور من مشادات كلامية إلى تبادل إطلاق نار في سوق القات المجاور، هنا وجدت ضالتي، فعندما نتحدث عن النساء وأدوارهن يصرخون في وجهنا (أووف ناقصات عقل ودين، نحن أين وأنتن أين) ولكننا لم نجد امرأة أشهرت سلاحها بسبب كلمة أو خلاف، في وقت نجد الرجل يده على الزناد حتى وإن كان السبب “علاقية قات”.
- المقال الفائز في مسابقة “مقالة الرأي” ضمن حملة “الوساطة المجتمعية للمرأة” التي نظمتها منصتي 30.
مشاركة الري