الفن العزلة الصم والبكم لغة الاشارة الجامعة
article comment count is: 0

الفن كخطاب بديل.. تجربة هديل في مجتمع لا يسمع!

فرضت الحرب عزلة خانقة على فئات من الناس، ومع ذلك وجدت شخصيات لم تستسلم للظروف التي فرضتها الحرب، و برزت تجارب فردية استطاعت أن تحوّل الفن إلى لغة بديلة للتعبير والتواصل، خصوصًا لدى فئة الصم، التي لطالما وُضعت على هامش السياسات العامة والمؤسسات التعليمية. واحدة من هذه التجارب تعود لـ هديل علي نصر، شابة من سكان مدينة تعز جنوب غرب اليمن، وُلدت بلا قدرة على السمع أو النطق، لكنها اختارت أن تتكلم عبر الألوان والخطوط.

تمثل هديل نموذجًا لفئة مهمّشة تسعى لانتزاع حقها في التعبير، وسط غياب واضح للبرامج المتخصصة والبُنى المؤسسية الداعمة. تعيش هديل في أسرة تضم ثلاثة من إخوتها من فئة الصم والبكم، ما يضاعف من التحديات التي تواجهها الأسرة في بيئة لا تتوفر فيها أبسط أدوات الدمج.

تقول صفية عبده علي، والدة هديل: “رغم صمت البيت بسبب عدم قدرتهم على السمع، إلا أن مشاعرنا تفيض حبًا وتواصلًا بطرق أخرى. هديل كانت منذ طفولتها تتحدث من خلال الرسم، حيث كانت تمسك القلم وتغمر نفسها في ألوان تعبر بها عن أفكارها وعالمها الداخلي، وهذا كان طريقها للتواصل مع الآخرين.”

انهيار التعليم الخاص بالصم

قبل اندلاع الحرب، كانت هديل طالبة في معهد خاص بفئة الصم، غير أن المعهد توقف عن العمل منذ أكثر من تسع سنوات، لتبدأ معها رحلة من العزلة التعليمية والاجتماعية. وبالانتقال إلى منطقة ريفية في مديرية شرعب الرونة، فقدت آخر أشكال التواصل مع صديقاتها ودعمها الأكاديمي، ما أدى إلى تضييق الأفق أمامها، وزيادة شعورها بالتهميش.

أمام واقع خالٍ من الاحتواء والدعم، اختارت هديل أن تجعل من الرسم وسيلة للحوار مع العالم. علمت نفسها تقنيات الرسم من فيديوهات اليوتيوب، وبدأت تنشر أعمالها على وسائل التواصل الاجتماعي، لتلقى تفاعلًا إيجابيًا أعاد لها شيئًا من الاعتراف الرمزي بوجودها. تقول هديل، في تواصل كتابي عبر واتساب، إن “الرسم أنقذني، أعطاني وسيلة أقول بها ما لا أستطيع قوله بالكلام”.

مع مرور الوقت، أنجزت أكثر من مائة لوحة تنوعت بين الوجوه والمناظر الطبيعية والمعالم التراثية، وحتى قضايا اجتماعية. ولم يتوقف شغفها عند حدود اللوحة، بل توسع إلى مجالات التصميم والمونتاج بعد مشاركتها في دورة تدريبية ضمن مبادرة “طيف” التي استهدفت فتيات من فئة الصم والبكم.

رغم التحديات، استطاعت هديل الالتحاق بجامعة تعز، لتكمل تعليمها في كلية الآداب، في خطوة تعبّر عن إصرار هذه الفئة على انتزاع حقها في التعليم العالي. لكن غياب مترجمي الإشارة داخل القاعات الدراسية مثّل عائقًا كبيرًا أمامها وصديقاتها.

كان لدور المعلمة سمية هاشم، أثر كبير و التي تطوعت لمرافقة أربع طالبات من فئة الصم، وساهمت في كسر حاجز الصمت داخل القاعة. تقول: “كنا نواجه تحديات في الترجمة بسبب اختلاف لغة الإشارة من منطقة لأخرى، وغياب قاموس موحّد، إلى جانب محدودية وعي المجتمع بهذه اللغة”. وتؤكد على ضرورة توفير وسائل نقل وتعزيز التثقيف المجتمعي بحقوق هذه الفئة.

الفن كأداة لبناء الاندماج المجتمعي

في سياق تتصاعد فيه أصوات الحرب، يشكّل فن هديل فعل مقاومة ناعم، يعزز قيم السلم والاندماج، ويمنحها هوية مستقلة تتجاوز الصور النمطية. ترى المختصة النفسية سوسن سيف أن “التعبير الفني بالنسبة لفئة الصم هو بمثابة علاج ذاتي يعزز من التقدير الشخصي، ويقلص من الشعور بالنبذ الاجتماعي”. وتضيف أن التمكين النفسي والاقتصادي لهذه الفئة يجب أن يكون ضمن سياسة مجتمعية شاملة، لا تعتمد فقط على المبادرات الفردية.

قصة هديل، بما تحمله من تفاصيل الألم والأمل، تعكس صراعًا مزدوجًا مع الإعاقة، ومع بنية مجتمعية غير مهيأة للاحتواء. لكنها، رغم ذلك، تختار أن تصوغ هويتها بفرشاة وألوان، وأن تتحدث بصمتٍ يعجّ بالمعاني.

 

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً