لا تزال حادثة سميحة الأسدي، التي قُتلت داخل قاعة المحكمة من قبل أخيها مثار جدل، وما تلى ذلك من حكم بإسقاط حكم التعزير والاكتفاء بالقصاص من قبل محكمة الاستئناف، وهو ما يمنح ولي أمر القاتل والمقتولة (الأب) حق العفو وبالتالي إسقاط القصاص وخروج القاتل وضياع حق المقتولة التي كانت تحضر جلسة قضائية تطالب فيها برفع ما يُعرف بـ”العضل” بعد أن رفض ولي أمرها تزويجها دون مبرر.
على الرغم من مرور 7 سنوات على تلك الحادثة، إلا أنها ما تزال شاهدة على الفجوة العميقة في منظومة العدالة والحماية الممنوحة للمرأة في اليمن، والتي عادة ما تكون واقعة بين سندان العرف ومطرقة القانون.
إحصائيات صادمة
أظهر تقرير مشترك صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، بعنوان “جرائم قتل الإناث في عام 2023: تقديرات عالمية لجرائم قتل الإناث من قبل الشريك الحميم أو أحد أفراد الأسرة“، أن ما لا يقل عن 85 ألف امرأة وفتاة قُتلن عمدًا حول العالم خلال عام 2023، من بينهن 51 ألف حالة (أي ما يعادل 60%) ارتُكبت على يد شركاء حميمين أو أحد أفراد الأسرة. ويفيد التقرير أن نحو 140 امرأة تُقتل يوميًا بهذه الطريقة، أي امرأة واحدة كل 10 دقائق، في واحدة من أبشع الجرائم التي غالبًا ما تمر بلا عقاب.
أما في اليمن، فلا توجد إحصاءات رسمية دقيقة حول جرائم قتل النساء داخل الأسرة، نتيجة ضعف التوثيق الرسمي، إلا أن بعض المؤشرات المتاحة تعكس واقعًا مقلقًا. فقد أشار تقرير سابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان (2017) إلى أن نسبة العنف ضد النساء والفتيات ارتفعت بأكثر من 63% بعد عامين فقط من اندلاع الحرب. وفي استبيان نفذته المنظمة الإلكترونية للإعلام الإنساني عام 2020، واستهدف آراء 241 امرأة، أفادت 60% منهن بتعرضهن لأحد أشكال العنف، فيما أظهرت النتائج أن 72% من هذه الحالات كانت عنفًا أسريًا، صادرًا عن الأب أو الأخ أو الزوج. كما بينت الدراسة أن 83% من الضحايا لم يبلغن عمّا تعرضن له، وكان من أبرز أسباب عدم التبليغ غياب القوانين التي تجرم العنف ضد النساء بنسبة 55%، يليه الحرج والخوف من الأسرة والمجتمع بنسبة 30%.
الأعراف وتبرير العنف
تلعب الأعراف والتقاليد المجتمعية دورًا محوريًا في تشكيل تصورات المجتمع حول أدوار الجنسين وتبرير العنف ضد المرأة، فبحسب تقرير “وضع المرأة اليمنية: من الطموح إلى تحقيق الفرص” الصادر عن البنك الدولي، فإن العنف ضد المرأة غالبًا ما يُبرر حين تُتهم بالخروج عن طوع الأدوار الأسرية والسلوكيات التقليدية الخاصة بالنساء سواء في المجالات العامة أو الخاصة، فيما يرى 37% من اليمنيين أن العنف مبرر في حال رفض المرأة للأوامر، وهي نسبة تعكس مدى ترسخ هذه المواقف في الوعي الجمعي.
تؤكد الناشطة الحقوقية تهاني الصراري أن الأعراف والتقاليد في المجتمع اليمني تلعب دورًا خطيرًا في التستر على جرائم العنف ضد النساء، بل وتبريرها تحت مسميات مثل الشرف أو حماية سمعة العائلة. فكثير من الجرائم تمر دون إبلاغ أو محاسبة بسبب الخوف من العيب أو الفضيحة الاجتماعية، وغالبًا ما يُمارس الضغط على الأسر من قبل المجتمع للتنازل عن حقوق الضحية أو التستر على الجاني. الأسوأ من ذلك أن بعض الأعراف تمنح الرجل سلطة شبه مطلقة على النساء، وتبرر له ممارسة العنف بحجة التربية أو التأديب أو السيطرة، مما يُغذّي ثقافة الإفلات من العقاب، ويمنع النساء من المطالبة بحقوقهن أو حتى الحديث عما يتعرضن له من انتهاك.
وتضيف: “للأسف، ما يزال الوعي المجتمعي قاصرًا، ويُنظر إلى هذه الجرائم أحيانًا كمسائل أسرية داخلية وليست جرائم يعاقب عليها القانون. بل إن البعض يبررها باسم الشرف أو العيب أو حتى الدين، وهو ما يزيد من تفاقمها واستمرارها في صمت وخوف.”
ثغرات قانونية
يُعد الإطار القانوني في اليمن أحد العوامل الرئيسية التي تسهم في غياب العدالة لضحايا العنف ضد المرأة. فقانون الجرائم والعقوبات اليمني (1994) لا ينص صراحة على تجريم “العنف الأسري” أو “العنف القائم على النوع الاجتماعي”، على الرغم من أنه يتضمن مواداً عامة تجرم أفعالاً مثل القتل، الضرب، والاعتداء. غير أن هذه النصوص لا تميز بين الضحية إذا كانت امرأة أو رجلًا، ولا تراعي الخصوصية المرتبطة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي. بل إن بعض المواد القانونية في القانون تُسهم في تعزيز الإفلات من العقاب، خصوصًا إذا كان الجاني من الأقارب. فمثلًا، تنص المادة (232) على أنه: “إذا قتل الزوج زوجته ومن يزني بها حال تلبسهما بالزنا، أو اعتدى عليهما اعتداء أفضى إلى موت أو عاهة، فلا قصاص في ذلك، وإنما يُعزّر الزوج بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة”. كما تنص المادة (233) على أنه: “إذا اعتدى الأصل على فرعه بالقتل أو الجرح، فلا قصاص، وإنما يُحكم بالدية أو الأرش، ويجوز تعزير الجاني بالحبس أو الغرامة”. أما المادة (42) التي تعد شكلاً قانونياً من أشكال التمييز ضد المرأة فتؤكد أن دية المرأة نصف دية الرجل.
في هذا السياق، يوضح المحامي والناشط الحقوقي ياسر المليكي أن “القانون اليمني لم يخصص نصوصًا لتجريم العنف الأسري، بل اعتمد على نصوص عامة تشمل الجميع، باستثناء فئات محددة مثل الأطفال الذين أفرد لهم قانوناً لطبيعة التعامل معهم. أما بشأن النساء فما ينطبق من تجريم على الآخرين ينطبق عليهن، سواء كان القتل، أو الاعتداء أو الجرح أو التعذيب وغيره”.
ويضيف المليكي: “تعامل القضاء مع جرائم قتل النساء من قبل الأقارب محكوم بنصوص قانونية، فمثلًا لا يُقتص من الأصل إذا قتل فرعه، كما لا يُقتص من الزوج إذا قتل زوجته حال تلبسها بالزنا. وهذان النصّان يمثلان أبرز الثغرات القانونية، إلى جانب نص دية المرأة التي تساوي نصف دية الرجل”.
وحول الحلول المطلوبة يقول المليكي: “التعديلات القانونية المطلوبة تتمثل في تعديل النصوص المتعلقة بقتل الأصل لفرعه، وقتل الزوج لزوجته حال الزنا، بالإضافة إلى تعديل مادة دية المرأة، وتضمين نص صريح يجرّم العنف الأسري وضرب الرجل لزوجته أو قريباته”.
ضعف آليات الحماية
إلى جانب الثغرات القانونية، تعاني النساء في اليمن من غياب آليات حماية فعالة تحصنهن من العنف داخل الأسرة، أو توفر لهن ملاذًا آمنًا عند تعرضهن للعنف أو التهديد.
تؤكد الناشطة الحقوقية تهاني الصراري أن “الآليات الموجودة لحماية النساء المهددات بالعنف محدودة جدًا وضعيفة؛ فلا توجد دور إيواء كافية وآمنة، كما لا توجد خطوط ساخنة فعالة للتبليغ أو آليات تدخل سريع من الجهات الرسمية”. وتشير إلى أن الأجهزة الأمنية غالبًا ما تتعامل مع هذه القضايا ببطء أو تجاهل، وتُعاد الضحايا إلى بيئاتهن الخطرة دون أي ضمانات حقيقية للحماية.
وتضيف: “كثير من النساء لا يثقن بالجهات الأمنية والعدلية، بسبب تجارب سابقة من التساهل أو التمييز أو التسويف في كثير من القضايا، فالعدالة غير متاحة للجميع بشكل متساوٍ خصوصًا في القضايا الأسرية، التي يغلب عليها تدخل الوسطاء العرفيين دون أي التزام بالحقوق القانونية للنساء”.
وترى الصراري أن الحل يكمن في إصلاح شامل يبدأ بتغيير النظرة المجتمعية التي تعتبر العنف شأنًا عائليًا خاصًا، وتعزيز الوعي بأن هذه الأفعال تُعد جرائم ينبغي رفضها ومحاسبة مرتكبيها. كما تدعو إلى سن قوانين صريحة تجرّم العنف ضد النساء وتوفير آليات حماية حقيقية، مثل مراكز إيواء، وخطوط طوارئ، وتدريب منتسبي الشرطة والنيابة على التعامل المهني مع قضايا النساء. وتشدد على أهمية إدماج قضايا الحقوق والمساواة في التعليم والإعلام، والعمل على تمكين النساء اقتصاديًا واجتماعيًا لتقليل تبعيتهن، وتشجيعهن على التبليغ والمطالبة بالحماية دون خوف.