منذ اندلاع الحرب على تعز، اضطرت لينا منصور أحمد ـ معلمة لغة انجليزيةـ وأسرتها للنزوح، تاركين منزلهم لأكثر من ثلاث سنوات. هذه التجربة القاسية أشعلت في قلبها عزيمة قوية لخدمة مجتمعها وتعليم أبنائه. في عام 2016، التحقت في البداية بمدرسة الشهيد حيث لم يكن لديها راتب وإنما إيمان عميق بأن التعليم من أساسيات الحياة.. بدأت لينا التدريس بشكل تطوعي، حيث تم استخدام المباني السكنية المتضررة كمدارس بديلة لتعليم الأطفال. ومع مرور الوقت، التحقت بمدرسة “عمار بن ياسر” في منطقة الكنب، شرق المدينة، قرب خطوط التماس، حيث تعمل كمعلمة للغة الإنجليزية وأخصائية اجتماعية، تقدم من خلالها جلسات دعم نفسي فردية وجماعية للطلاب الذين يعانون من آثار الصدمات التي خلفتها الحرب.
في بداية حديثها، تقول “لينا” انها منذ أول يوم بدأت فيه عملها شعرت بأهمية الدور الذي تؤديه كأخصائية اجتماعية، وقد ساهمت بفعالية في حل العديد من المشكلات التي يواجهها الطلاب. وتوضح أن اختيارها للعمل في منطقة قرب خطوط التماس ينبع من شعور عميق بالواجب الإنساني تجاه الأطفال الأبرياء الذين لا ذنب لهم في هذه الصراعات. وتضيف: “لم يكن بإمكاني أن أبقَ مكتوفة الأيدي، بل رأيت أنه يجب أن أكون جزءًا من الحل”.
تأثيرات نفسية
تسعى “لينا”، من خلال جلسات الدعم النفسي، إلى التخفيف من التأثيرات النفسية على الأطفال، وتعمل على غرس الأمل في نفوسهم ليتمكنوا من النظر إلى المستقبل بإيجابية. وتعبر عن حبها العميق لدورها كأخصائية اجتماعية، وتفضل هذا الدور على التدريس، إذ تبذل جهدًا كبيرًا لتكون الأفضل في هذا المجال. وتشير إلى حاجتها وزملائها لدورات تدريبية تساعدهم على تطوير مهاراتهم في إدارة الجلسات الفردية ودراسة الحالات الخاصة، وكذلك لإجراء بحوث ميدانية تُعمّق فهمهم للتحديات التي يواجهها الطلاب.
وترى لينا أنه ينبغي تأهيل الأخصائيين من خلال برامج تدريبية متخصصة لتحسين وضع الطلاب، معبرة عن أسفها لأن بعض المعلمين الذين يتولون هذا الدور يسلكون مسارًا بعيدًا عن جوهر عمل الأخصائي الاجتماعي، دون إدراك أن الأخصائي الاجتماعي هو أمين سر الطالب، وصديقه، وطبيبه، ومحاميه، والجسر الذي يقوي العلاقة بين المدرسة والمجتمع.
وتشير “لينا” إلى أهمية وجود نقابة للأخصائيين الاجتماعيين ليتمكنوا من المشاركة في صنع القرارات التربوية، مؤكدةً أنها تبذل جهدًا كبيرًا لتطوير نفسها من خلال القراءة والبحث، نظرًا لإهمال الدولة لهذا التخصص رغم أهميته الكبيرة.
وحول التحديات التي تواجهها في عملها، تقول: “التحديات التي نواجهها كبيرة ومتعددة، بدءًا من حالة المبنى المتدهورة حيث الجدران متصدعة، ولا توجد أبواب أو نوافذ، إضافةً إلى غياب ساحة توفر للطلاب مكانًا للاستراحة. لكن التحدي الأكبر يكمن في الحالة النفسية المتدهورة للطلاب بسبب الحرب، إذ فقد الكثير منهم الدافع للتعلم في ظل مستقبل غامض. كما أدى نقص المعلمين إلى زيادة العبء على الجميع”.
ورغم هذه الصعوبات، تؤكد لينا: “حولنا هذه التحديات إلى دافع للعمل بإرادة قوية لا تعرف الاستسلام. كطاقم إداري وتعليمي، بذلنا جهودًا كبيرة لتجاوز هذه الصعوبات، واستعنّا بمعلمين متطوعين لسد فراغ المعلمين النازحين، مما ساعد في الحفاظ على استمرارية العملية التعليمية.”
وتضيف لينا أن دورها كأخصائية اجتماعية تضاعف في ظل هذه الظروف القاسية. لم يقتصر عملها على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، بل شمل تنظيم جلسات فردية وجماعية لمساعدة الطلاب على التعامل مع الصدمات والتكيف مع الواقع. وتسعى دائمًا لتعزيز الأمل في نفوسهم، وتشجيعهم على مواجهة المستقبل بإيجابية رغم التحديات.
وتؤكد لينا أنها تعمل بتنسيق وثيق مع أفراد الطاقم التعليمي والإداري لخلق بيئة مدرسية داعمة ومستقرة نفسيًا، كما تحرص على تنظيم الأنشطة التي تساعد الطلاب على تخفيف الضغوط وتوفير متنفس للحياة الطبيعية، مضيفة: “هدفنا الأساسي هو استمرارية التعليم وتقديم الدعم الشامل للطلاب، ليشعروا أن المدرسة هي ملاذ آمن يمنحهم الأمل والاستقرار”.
وتختم “لينا” حديثها بالتأكيد على أن وجود الأخصائي الاجتماعي يعدّ أساسيًا لنجاح تأسيس طالب قادر على المشاركة بفعالية في المجتمع، مشيرةً إلى أن المدرسة ليست مكانًا للتعليم الأكاديمي فحسب، بل هي أيضًا لتأهيل الطالب ليكون قادرًا على التعامل مع ذاته ومع الآخرين، بحيث يخرج منها بشخصية قوية وقادرة على تحمل المسؤولية.
صدمات نفسية لدى السكان!
عن دور “لينا” يتحدث “إبراهيم“، مدير مدرسة عمار بن ياسر الواقعة في هذه المنطقة، يقول: “تبرز الأستاذة لينا كعنصر فاعل في دعم الطلاب نفسيًا”. يسرد إبراهيم كيف ساهمت في تخفيف الأضرار النفسية الناجمة عن الحرب والنزوح، إضافة إلى عملها في التصدي لمشاكل عمالة الأطفال والتسرب من التعليم. على المستوى الاجتماعي، لعبت لينا دورًا حيويًا في التواصل مع أولياء الأمور، التوعية، ومعالجة المشاكل المترتبة على النزاعات، بهدف التخفيف من الآثار السلبية على الأطفال وأسرهم.
في منطقة تعيش على وقع خطوط النار، يعاني سكانها من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة تحدث إبراهيم عن واقع مرير يغلب عليه الفقر والحاجة سبب إلى عجز الكثير من السكان عن مغادرة المنطقة خلال فترة الحرب مما أدى الصدمات النفسية لدى السكان المنقطة، إذ حال انعدام فرص العمل دون انتقالهم إلى أماكن أكثر أمانًا، ما دفع العديد إلى الاغتراب بحثًا عن لقمة العيش.
يوضح إبراهيم أن الأطفال في المنطقة يعانون من آثار نفسية متراكمة نتيجة الظروف الأمنية المتدهورة، مشيرًا إلى لجوء بعضهم إلى العمل لإعالة أسرهم. هذه الظروف تركت آثارًا عميقة على حالتهم النفسية، مع تزايد مشاكل التسرب من التعليم، وتفاقم الأزمات الأسرية.
يذكر إبراهيم التحديات التي تواجه المنطقة هي انعدام المرافق التعليمية المناسبة. تعتمد المدارس على مبانٍ بديلة غير مجهزة لتغطية احتياجات الطلاب، مع الاعتماد الكبير على الكوادر المتطوعة، حيث أن العديد من الكوادر التعليمية إما نزحوا أو بلغوا سن التقاعد. يعبر عن أهمية الأخصائيات في هذه المرحلة مؤكداً إ أن دور الأخصائيات النفسيات والاجتماعيات أصبح ضرورة ملحة في ظل الأوضاع الراهنة. يبرز هذا الدور في دعم النشء الذي يفتقر لوسائل رفيق أو الأماكن المخصصة للأطفال، كالمتنزهات والحدائق، ما يجعل الحاجة إلى التوجيه النفسي والاجتماعي أكثر أهمية.
“في ظل غياب الدعم الكافي، تبرز الحاجة الملحة لتكثيف الجهود المبذولة للتخفيف من معاناة الأطفال وأسرهم في هذه المنطقة المنسية”، قال إبراهيم بنبرة تجمع بين الأمل والقلق، مؤكدًا على أهمية استمرارية المبادرات التي تسعى لتحسين واقع الحياة. في السياق ذاته، وضح عاقل الحارة عبد القوى بأن عدد سكان المنطقة يتراوح بين 3000 و 3500 نسمة، ما يزيد من حجم التحديات ويضع ضغوطًا إضافية على الموارد والخدمات الأساسية.