لم يعد اليمن يقترن في الأذهان بالنصل اليماني، ولا بكونه موطناً للبن والكروم، ولم يعد من الوارد أن “النسيم العليل يأتي من اليمن” كما يقول مَثّلٌ من أواسط آسيا. كما أن تسمية “العربية السعيدة” لم تعد ترد على الألسن إلا من باب التهكم والسخرية.
بدلاً من النصل والبن والكروم والنسيم العليل حلت طائفة أخرى من القرانات التي تبدأ بالإرهاب ولا تنتهي بالفساد والفقر والقات وانهيار الدولة. بتعبير آخر، فقد أضحت صورة اليمن اليوم، سواء في وعي أبنائه أو في وعي الآخرين، مهدورة كما لم يحدث من قبل. لو طلب من مواطن دولة ما غير اليمن، حتى لو كان من دول الجوار، أن يدلي برأيه أو بما يتصوره عن اليمن، فلا أتصور إجابة له تخرج عن القرانات السالبة السابقة. لست هنا بصدد الاستسلام لحنين نوستالوجي لصورة قبلية، فوق تاريخية، لليمن. ما أسعى إلى تلمسه هو صورة لليمن تتجاوب مع ممكناته الثقافية والحضارية الواقعية والمحتملة والتي لم يتسن له حتى الآن تحقيقها.
إذا كان لزاماً البحث عن أمثلة تقريبية، فسأتذكر المرارة التي تحدث بها ذات يوم أحد اللاجئين الصوماليين في اليمن عندما قال:” إن مأساة الصومالي اليوم لا تتأتى من الحروب الداخلية التي يقاسيها بلده فحسب لكن أيضاً وبالقدر نفسه من صورته المهدورة في الخارج”، جاء ذلك في سياق تقصيه الشفهي لأسباب المعاملة القاسية التي يتعرض لها صوماليون في اليمن من قبل بعض مضيفيهم على خلفية وجود وضع صومالي عام لا يقدمهم للآخرين كما هم عليه على الأقل أو كما يريدون أن يكونوا.
أظن أن حال اليمن اليوم تشبه من بعض الوجوه حال الصومال، مع فارق أننا، هنا في اليمن، ما نزال بعيدين عن إدراك حجم الخسائر، بحساب الأرقام أو بحساب الاعتبار.
لا مجال للحديث بلغة الأرقام طبعاً. كما أن المعلومات عن حال اليمنيين في المهاجر المختلفة غير متوافرة. وفي هكذا حال، قد يفي بالغرض استدعاء الحالة المعاكسة لبلدان، ما أكثرها، حافظت وتحافظ على كرامتها وعلى كرامة أبنائها بالضرورة من خلال تعزيز حضورها الإيجابي في الوعي العالمي تاريخاً وثقافة وانجازاً ومزايا مناخية وبشرية.
بدوره، يقدم لبنان مثالاً استثنائياً على بلد عانى من تدهور أوضاعه الداخلية ومن ويلات الحرب الأهلية، مع ذلك ظل في وجدان الناس لصيقاً بصورته البهية المختلطة بأصوات فنانيه وبشهرة نتاجات مفكريه وشعرائه وبسعة صدر بيروت، وأيضاً بدور نشرها ومطابعها التي لم تكف، حتى في خضم الحرب الأهلية، عن تحويل عصارة أفضل العقول البشرية في مجالات الأدب والفكر إلى أحرف… ما أريد قوله من مثال لبنان هو التالي: من الممكن لبلد ما أن يعاني من معضلات داخلية لكن دون أن تستحوذ هذه المعضلات على كامل صورته وذلك إذا ما تسنى لهذا البلد أن يحافظ على استمرارية هذه الصورة، أي سلامة مؤسساته التعليمية والإعلامية والثقافية والشبابية وقبل ذلك على رفاهية وشروط إنتاجية العاملين في هذه المجالات. لكن مشكلة اليمن هي أعوص من ذلك بكثير.
مشكلة اليمن هي مشكلة بلد لا يحضر في الوعي، سواء المحلي منه أو الخارجي، إلا من باب ظواهره السلبية فيما تعاني ممكناته الحضارية والثقافية، المكونة من مجمل نتاجات أبنائه حاضراً وماضياً، من كبت وتعتيم مستحكمين.
يخطئ من يقارب المشكلة، أي مشكلة اليمن مع صورته المهدورة، من زاوية الظرف السياسي المحلي والإقليمي والدولي الراهن الموسوم بتبلور موقف عالمي مضاد للإرهاب مصحوب بماكينة إعلامية جبارة جعلت من الظاهرة حديث الساعة من أقصى الأرض إلى أقصاها. فمشكلة اليمن ليست عابرة بل مقيمة، ليست مرتبطة عرضاً بالإرهاب لكنها تتغذى من أوضاعه الداخلية عموما غير المتبلورة نحو صورة بلد يستطيع أحد مواطنيه أن يقول “أنا من اليمن” دون أن يجر على نفسه الشعور بالعار والخزي كما لو كان يجاهر بانتمائه إلى عصابة من اللصوص. ليس لأن ما يمثله اليمن هو سلبي بالكامل ولكن لأن ما هو إيجابي في صورة هذا البلد هو مغيب بالفعل عن بال أبنائه في المقام الأول. كما لو أن المسألة تتعلق بنوع من التغريب –المدروس أو غير المدروس، لا أدري!!- يتعرض له اليمني عن مكوناته الثقافية والحضارية في حاله هي أشبه بمحو الذاكرة. ففي الوقت الذي يجري فيه تطبيع المواطن على ما هو سلبي برفعه إلى مستوى البداهة يشهد فيه ما هو إيجابي تقلصاً في الوعي إلى درجة الاضمحلال والتلاشي.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.
هل وجدت هذه المادة مفيدة؟