يخرج الثلاثيني محمد “اسم مستعار” من منزله، كعادته كل صباح ليفتتح بسطته لبيع التمور الواقعة في باب اليمن بصنعاء القديمة، لا خطط لديه سوى ممارسة عمله وجني ما تيسر من المال، ليصادف زبوناً يشتري عدداً من كيلوهات التمر الذي فاض كيله تمرة زائدة، ليدخلا في تلاسن حاد وسريع يفضي إلى قتل محمد لزبونه بخنجر الجنبية.. وفي أقل من دقيقة حدثت جريمة أمام الناس في السوق بسبب تمرة، دون أية دوافع أو خلافات شخصية مسبقة. لم يكن محمد يخطط للقتل ولم يتوقع أن يصبح يوماً قاتلاً، ولم يكن لأبناء نبيل أن يتخيلوا والدهم مقتولاً بسبب تمرة.
هكذا تحولت مؤخراً جرائم الصدفة إلى ظاهرة مخيفة كما شرح -دكتور علم النفس الجنائي وعميد مركز الإرشاد النفسي- علي الطارق، الذي أطلق على هذه الحوادث مسمى جرائم الصدفة، والتي تحدث دون تخطيط مسبق لها جراء أسباب تافهة. وأشار الطارق لـ”منصتي 30” إلى أن تردي الأوضاع المعيشية والنزاع الحاصل منذ سبع سنوات انعكس سلباً على حياة ومعيشة اليمنيين وعمل على ارتفاع معدل الجرائم والانتهاكات وأصبحت جرائم الصدفة ظاهرة بعد أن كانت هذه الجرائم حوادث نادرة.
وأضاف قائلاً إن “مثل هذه الجرائم لا نجد لها تسلسلاً في الأحداث وقد تحدث بعضها في ثلاثين ثانية إضافة إلى عدم وجود أية عداوة بين القاتل والمقتول وقد تسمى بحوادث الموت المفاجئ، وهي من آثار النزاع الخفية التي ظهرت مؤخراً لعدة أسباب، منها الضغوط النفسية والهروب من العقوبات، ففي الكثير من الحالات يتمكن مرتكبو هذه الجرائم من الإفلات من العقوبة بتقديم تقارير طبية غير دقيقة تدعي أنهم أشخاص ذهانيون أي “مصابون بالجنون”.
ضغوط نفسية تؤدي إلى الجريمة
التراكمات والضغوط النفسية خلقت نوعاً من فقدان التوازن والأمان. يحكي لنا صديق والد هيثم “اسم مستعار” أن هيثم الشاب العشريني نزل من سيارته ليشتري بعض الحلوى من متجر صغير في دار سلم بصنعاء وبعدما أخذ حاجته أعطى البائع المبلغ المقدر لكنه رفض قبول ورقة نقدية من فئة 250 ريال لأنها ممزقة ومرقعة لكن هيثم غادر المتجر لا مبالٍ، مما جعل البائع يصرخ ويتبعه، وما لبث هيثم أن التفت خلفه ليرى البائع حاملاً سكينة قطع الحلوى وقام بطعنه في عنقه، وحسب شهود العيان فالبائع لم يكن ينوي قتل هيثم إنما اللحاق به.
وهنا يشير الطارق إلى سمات وخصائص المجتمع اليمني الذي “يعتمد على الهجوم والعنف لا على الاحتمالات وذلك بسبب الأفكار المسبقة والمبنية من ظروف المجتمع ومحيطه المشجع للعنف، ولا ننسى أن الانفلات الأمني والهروب من العقاب والقانون واعتماده على عقوبات خارجة عن القانون كالصلح القبلي ساهم في انتشار الظاهرة ومن الطبيعي أن النزاع الدائر في اليمن وتبعاته أثر على نفسية المواطن، لذا نحتاج إلى وضع مجتمعي و نفسي جيد كي نتجاوز المرحلة”.
أعراض نفسية
انعدام الأمن الغذائي، البطالة، الهجمات العشوائية أو الغارات الجوية وضعف الخدمات العامة الأساسية كل ذلك كان له آثار مباشرة على الصحة والرفاهية النفسية بالنسبة للمواطنين اليمنيين، فحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن يعاني 1 من كل 5 أشخاص من أعراض نفسية في حالة الحرب ومناطق النزاع.
تؤكد عبير القدسي (مدربة واستشارية نفسية) أن “مشاكل الاكتئاب وضغوط المعيشة غالباً ما تنتهي بصاحبها للعصبية وإيذاء الآخرين من حوله، ومن خلال ملاحظاتنا لتطور الجريمة لأتفه الاسباب لو تم البحث ودراسة حالة هؤلاء الأشخاص الذين ارتكبوا الجرائم سنجد أنهم يعانون من هذه المشاكل، كما أن عدم الاستقرار والتعرض المستمر للتجاهل من قبل المجتمع والقانون سهل من انتشار جرائم الصدفة”.
يحكي أدهم علي أن في حي الروضة بمدينة تعز قتل أحد سائقي الدراجات النارية سائق شاحنة لنقل المياه بسبب احتكاك الشاحنة بالدراجة مما جعل سائق الدراجة يستشيط غضباً ويطلق النار فوراً على سائق الشاحنة.
تقول القدسي، إن “انتشار هذه الجرائم بات كبير جداً ومن خلال عملي رصدنا العديد من حالات القتل لأتفه الأسباب وما يصل إلى المنظومة القضائية وإلى الإعلام قليل جداً ويمثل 10% مقارنة بما هو في الواقع”.
نوهت القدسي لأهمية “التعامل مع الصحة النفسية بجدية واهتمام لمواجهة الظاهرة ولتجاوز عقبة الوصمة والعقبة المادية وذلك بإقناع المانحين بتقديم الدعم النفسي واعتباره من الأشياء الضرورية والهامة والأولويات كالسلل الغذائية التي يقدمونها”، وتضيف أن “إحدى وزيرات بلجيكا طالبت بتحويل توجه المانحين لقضايا الدعم النفسي في نهاية عام 2019م للذين ارتكبوا مثل هذه الجرائم ومن هم معرضون لارتكاب مثل هذه الجرائم والتعامل مع هذه القضايا بشكل سريع باعتبارها قضايا رأي عام”.
كل هذه الاعراض النفسيه التي تزيد كل يوم من عدد المصابين سببه الحرب الدائره من عام2015 الى عامنا هذا