امتدت الحرب في اليمن لتنال من الروابط الأسرية وصلات الرحم بين العائلات خلال السنوات السبع الفائتة؛ فإلى جانب تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع أسعار السلع الأساسية، تضاعفت تكاليف السفر من منطقة لأخرى، لاسيما الواقعة تحت سيطرة الطرف الآخر للنزاع. فضلاً عن وعورة الطرق والحواجز الأمنية المشددة المختنقة بسيارات وحافلات بانتظار السماح بالعبور.
سيراً على الأقدام
يقول ملهم أحمد (48 عاماً) أحد أبناء محافظة الضالع: “لم أعد ألتقي بزوجتي وأولادي الأربعة إلا مرَّةَ واحدة كل عام وأحياناً كل عام ونصف، أمكث عندهم لأقلّ من شهر ثم أعود لعملي في الحديدة”.
يعمل “ملهم” فني ميكانيك في إحدى الشركات بالحديدة منذ عام 2003م براتب شهري 100 ألف ريال لا يغطي احتياجاته وأسرته؛ فبالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتكاليف السفر بين المحافظات، يجد “ملهم” مشقة كبيرة عند السفر لزيارة أسرته، وهذا ما جعله ينقطع عنهم طوال العام -وربما أكثر- بعد أن كان يزورهم كل شهرين أو ثلاثة قبل الحرب.
يضطرُّ “ملهم” -في كل مرَّة يسافر فيها لزيارة عائلته- للمشي على الأقدام لأكثر من 7 ساعات من قرية “دغيش” مديرية “دمث” التي يسيطر عليها أنصار الله، إلى مدينة الضالع حيث يسكن أبناؤه تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، فالطريق بين المنطقتين مقطوعة كونها خطوط اشتباك مزروعة بالألغام على حدِّ قوله، مضيفاً أنَّه عند آخر زيارة لعائلته تم إرجاعه من قرية (دغيش) بدمث إلى الضالع بسبب اشتداد حِدَّة الاشتباكات تلك الفترة، فعاد إلى بيته ليتجه في اليوم التالي إلى عدن حتَّى يستطيع السفر إلى الحديدة.
أوضاع معيشيَّة لا ترحم
لم يستطع محمّد أحمد (36 عاماً) مغادرة الحديدة لزيارة والديه في منطقة ورزان – تعز منذ أربعة أعوام؛ كونه يقيم في منطقة الصليف بمحافظة الحديدة، حيث مقر عمله.
يقول محمد: “طال غيابي كثيراً عن والدَيّ؛ فراتبي لا يغطي الاحتياجات الأساسية لعائلتي؛ فكيف بمصاريف السفر في هذه الظروف!”.
ويضيف: “والداي لا يعرفان أبنائي الثلاثة إلا من خلال الصور التي أرسلها لهم، ولو قرَّرت زيارتهم فسيلزمني مبلغ لا يقل عن 70 ألفاً أجور سفرنا من الحديدة لمنطقة “ورزان” في تعز فقط، فضلاً عن أيَّة احتياجات أخرى”.
ما عدت أراها.. بل ولا أسمعها
لا يختلف الحال لدى عائشة خالد؛ فقد انقطعت عن زيارة أهلها في محافظة ذمار منذ 5 سنوات، فهي متزوجة من بائع خضروات بسيط، ويسكنان مع أولادهما في محافظة عدن.
لسنوات ظلت عائشة تكابد شوقها لأهلها، فتخفف منه بالتواصل معهم هاتفياً لسماع أصواتهم، لكن آلامها تفاقمت منذ ثمانية شهور حين علمت بخبر إصابة أمها بجلطة دماغية وحالة شلل رباعيّ جعل والدتها طريحة الفراش غير قادرة على النطق.
تقول عائشة: “مرض أمي ضاعف معاناة افتقادي لأهلي؛ لكننا عاجزين عن السفر بهذه الظروف…” وتضيف: “اشتقت لأمي، ولصوتها الذي لم أعد أسمعه منذ شهور”.
مسافةٌ قصيرةٌ.. ولكن!
أم محمّد هي الأخرى منقطعة عن أهلها، رغم أنهم داخل محافظة الحديدة ذاتها؛ فبعد إغلاق المدخل الشرقي لمدينة الحديدة (خط الكيلو 16) جراء الحرب التي شهدتها الحديدة منتصف العام 2018م، أجبرت “أم محمد” على الانقطاع عن زيارة والديها قرابة عامين.
تعيش “أم محمد” مع زوجها وأبنائها في إحدى القرى المجاورة لمنطقة (كيلو 16) بينما يعيش أهلها في شارع المعدل بمدينة الحديدة، وعلى الرغم أن المسافة الأصلية لا تتجاوز 20 كيلومتر فإن زيارة أهلها تقتضي السفر إلى مديرية “المراوعة” وارتياد سيارة أخرى تنقلهم إلى “باجل” لتقلهم سيارة ثالثة إلى مدينة الحديدة مروراً بخط “الكدن”؛ أي أنَّهم مجبرون على السفر ثلاث مرات واجتياز مسافة تصل 150 كيلومتر، فضلاً عن الانتظار لساعات طويلة عند كل محطة.
تقول “أم محمّد” إنّها “كانت تزور والديها مرَّةً أو مرَّتين في الأسبوع، لكنَّها بعد انقطاع الطريق غابت عن زيارتهم لمدَّة عامين؛ فزوجها يعمل سائقاً لدراجة نارية لا يكفي مردودها لإشباع جوعهم، خاصة بعد غياب ملامح الحياة والازدحام في منطقة (كيلو 16) بسبب الحرب، وأزمات المشتقات النفطية.
هذه نماذج من آلاف العائلات اليمنية المشتتة بين عذاب الشوق ومرارة قطع صلات الرحم، فيما يجمعها التساؤل: حتى متى ستظل هذه الحرب ببؤسها وإلى متى تجرعنا مرارة التشتيت والفراق؟!.
- تم إنتاج هذه المادة من قبل شبكة صحفيي السلام اليمنيين ومبادرة يمن بيس في إطار نشاط بناة السلام لـ”منصتي 30″.