مع الفجر، تستيقظ سلامة (15 عاماً) وشقيقتاها، تأهباً ليومٍ جديد ومرهق من العمل في جمع الحطب. بلا إفطار تغادر الشقيقات الثلاث كوخ العائلة قبل شروق الشمس للعمل حتى ساعات الظهيرة تحت شمس تهامة المحرقة، لا قوت لهن سوى الماء، فقد تعودن منذ سنوات على الاكتفاء بوجبة واحدةٍ يومياً، هي وجبة الغداء المشتراة بحصيلة يوم عمل شاقٍ، ولا تفي بسدِّ الرمق إلا بالمقدار الذي يدفع عن أجسادهن الناحلة شبح الموت جوعاً.
التحول المفاجئ في حياة سلامة وعائلتها، لم يكن ليحدث لولا مَرَضُ والدها بالفشل الكلوي الذي جعله قعيد الفراش منذ ست سنوات، قبلها كان يعيل أسرته (ثلاث بنات وثلاثة أطفال بالإضافة إلى الأم) من مهنته كعامل بناء مغترب سابقاً، ثم من عمله على دراجته النارية التي كانت توفر له دخلاً يفي بالحد الأدنى من أساسيات العيش، دون اضطرار أي من بناته الثلاث إلى التخلي عن الدراسة سعياً خلف لقمة العيش، كما يفعلن اليوم.
كفاحٌ مُضنٍ لا يسدُّ الرَّمق!
بكثير من الألم تقول سلامة: “كنت أدرس في الصف الرابع الأساسي قبل تدهور صحة والدي، واضطراره للتوقف عن العمل تحت وطأة المرض، كنا حينها نقيم في قريتنا (دار العاقل، غرب مدينة باجل)، ومنها كان يسافر أبي مرتين في الأسبوع لإجراء جلسات العلاج بمركز غسيل الكلى بمدينة الحديدة”.
قبل معارك الحديدة، كانت المسافة من (دار العاقل) إلى المدينة تستغرق ساعة واحدة تقريباً، وتكلف نحو ألفي ريال، وهو مبلغ كبير بالنسبة لأسرة فقيرة ورب أسرة عاطل عن العمل، مع ذلك كانت العائلة تكِّد لتوفير المبلغ، ولو بالاقتراض من معارفهم أو أقاربهم، ويحرمون أنفسهم من أشياء كثيرة، فكانت سلامة وشقيقتاها يذهبن إلى المدرسة دون إفطار، كي يوفرن لوالدهن تكاليف السفر لإجراء جلسات الغسيل.
استمر الحال كذلك -بحسب سلامة- إلى أن وصلت المعارك إلى أطراف مدينة الحديدة، صيف عام 2018م لتغلق المنفذين الجنوبي والشرقي، ومنذئذٍ تم قطع الطريق الرئيس المعروف بـ”كيلو 16″ شرق الحديدة، وصار السبيل الوحيد للوصول إلى مركز الغسيل هو الالتفاف عبر طريق فرعي نحو المنفذ الشمالي للمدينة، وهو يستغرق عدة ساعات مع الكثير من المشقة، ويكلف المسافر نحو عشرة آلاف ريال (نحو 16.4 دولار حسب سعر الصرف في مناطق سيطرة أنصار الله)، وهو مبلغ يفوق دخل الأسرة الأسبوعي، فضلاً عن قدرتها على دفعه مرتين أسبوعياً.
لم تجد الأسرة حلاً سوى النزوح إلى منطقة قريبة من مدينة الحديدة، لتقليل تكلفة السفر المتواصل لعلاج الأب، تقول سلامة: “بعد نزوحنا من باجل استقر بنا الحال في قرية صغيرة قرب الحديدة تدعى (الجبَّانة)، وفيها وجدنا من أهل الخير من تبرع لنا بهذا البيت”.
البيت الذي تتحدث عنه سلامة هو مجموعة عيدان من الحطب المغروسة في الرمل، تلتف عليها أحزمة من القش وسعف النخيل مسنودة بمجموعة من إطارات السيارات. ذلك هو البيت الذي صار ملاذهم الوحيد؛ بيت بلا سقف ولا حتى دورة مياه.
تعقيد الوضع
مئات من مرضى الفشل الكلوي في مناطق تهامة، بما فيها أجزاء من محافظات حجة، المحويت وريمة، صاروا يتشاركون أنواعاً من المعاناة في سبيل الحصول على جلسة غسيل بمركز غسيل الكلى بمدينة الحديدة، فهو المركز الوحيد العامل بمنطقة الساحل الغربي، يقصده المرضى من أربع محافظات على تخوم السهل التهامي. كل جلسة غسيل تتطلب منهم قطع مسافات طويلة للوصول إلى المركز في رحلة شاقة ومكلفة أجبرت البعض على الاستسلام للموت كما حدث مع حالات كثيرة لم تستطع السفر إلى مركز الغسيل الكلوي، بسبب تضاعف تكاليف النقل مع توالي أزمات وقود السيارات.
في السياق يقول الناشط الحقوقي كمال الشاوش: “مرضى الفشل الكلوي في اليمن عموماً وفي السهل التهامي خصوصاً، هم أكثر الفئات تضرراً من نواحٍ عدة، أهمها ندرة وجود مراكز الغسيل الكلوي، فمثلاً، في منطقة الساحل كلها لا يوجد سوى مركز واحد قيد الخدمة بمدينة الحديدة، يقصده مئات المرضى من مناطق بعيدة”.
ويشير الشاوش إلى التبعات التي خلفتها الحرب على الوضع في تهامة، وخطورة استمرار إغلاق المعبر الشرقي الرئيس للمدينة (طريق كيلو 16) أمام المسافرين والمرضى من وإلى مدينة الحديدة التي صار الوصول إليها يقتضي الالتفاف عبر طرق فرعية وعرة وبعيدة، تكلف المرضى مبلغاً يفوق بخمسة أضعاف ما كانوا سيدفعونه لو تم إعادة فتح الطريق الرئيسية.
- تم إنتاج هذه المادة من قبل شبكة صحفيي السلام اليمنيين ومبادرة يمن بيس في إطار نشاط بناة السلام لـ”منصتي 30″.
الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن .