من هذه القناعة كان تحركي وعملي لسنوات مضت، فهذه الفكرة أثرت علي وصاغت عالم الأشياء والأشخاص في حياتي، وكانت هذه الفكرة منطلقي للعمل المجتمعي مع الكثير من الرفاق في منظمات المجتمع المدني في اليمن، حينها كنا نعمل بكل جهد متاح لتغيير الأفكار، لفتح آفاق الحوار بين الشباب، للتدريب والتوعية وأنشطة تحسين التعليم وإكساب المعارف والمهارات للشباب.
سنوات تمرّ تزيدنا قناعة بأننا ننحت في الصخر، والصخر يتشكل لكن ببطء، فلابد من الحرص على الكثير والكثير من المصطلحات التي نطرحها، كالسائر في حقل مليء بالألغام تنتظر المساس لتنسفك، حيث كان مرورنا تلميحاً على بعض المسميات كفيلاً بنسف اللقاء بكامله، وإيقاف الحوار الذي كان يتجه إلى مسمى حوار بناء قبل البدء الجدال على مصطلح نختلف في معناه وفكرته.
ما زلت مؤمناً بأهمية عالم الأفكار، فنحن مجتمعات تحالف من أجل تجهيلها جبابرة السياسة وكهنة الدين منذ مدة، فهذا التحالف المظلم يعيش على جهل الناس وتبعيتهم، فالجمهور الجاهل يتحول بكل سلاسة إلى قطيعٍ أعمى يهيم خلف خطب المتحدثين (ساسة وكهنة)، وفتاوى المعممين يقدسها بلا تفكير أو تحليل أو حتى مقارنة باتساقها مع كلام الله وجوهر هذا الدين، ونبقى في هذه المتاهة إلى أن نصل إلى الجحيم (جحيم الحياة) بلا شعورٍ أو وعي.
لكن ما الحل لحقل الألغام الذي نعمل فيه، ومشكلة المصطلحات والتصورات المغلوطة في الأذهان، كيف نتحدث وننشر الوعي في مجتمعات تصوراتها مشوهة، هذه مشكلة المشاكل، وأساس عالم الأفكار الذي نريد صياغته، فأفكار الفرد تجلٍ من تجليات تصوره للأشياء، وما تقديس رجل الدين إلّا تصورٌ في الأذهان، غرس كي يصبح كل كلامه ديناً لا نقاش فيه، وما تكفير الناس على الرأي والكلمة (التي اختلف فيها السابقون قبل اللاحقون) إلا نتيجة تصوّر غرس في أذهان الناس عن أمور يعتبرها الكهنوت كفراً، فأصبحت في أذهان الناس كفراً، وتأخذ منّا سنيناً كي نغيرها، ومفهوم الديموقراطية ليس ببعيد، حيث كان تصوّر العقل العربي عنها بأنها باب من أبواب الشرك بالله، وهذا التصور مازال عند البعض إلى الآن، كل هذا جاء نتيجة أمرين رئيسيين: إجازة العقل العربي التي طالت فأصبح فقط مجرد مستمع منفذ، ووجود تيارات دينية لها تأثيرٌ في المجتمع روجت لهذه الفكرة، والمستفيد منها طرفا الكهنوت (رجال السياسة ورجال الدين) .
واقعنا المعاش الآن، مجتمعات تقتل بعضها، وتحرق ما بقي لها من حاضرٍ بعد أن أعدمت مستقبلها، وهذا ليس إلا نتيجة حتمية لاشتباك الأفكار وتلوثها نتيجة اختلال التصورات، ومازال السوس في عقولنا ينخر، فلا الثورة عادت ثورة، بل مهزلةُ عبث وتفكك (لكنهم سمّوها ثورة)، حشود يسوقها سياسي يحقق غايته، تأكل الأخضر واليابس(لكنهم سمّوها ثورة)، قتال بين أبناء الجلدة الواحدة والدم الواحد يستمر عاماً بعد عام، وأفواج من المسالمين تفرّ إلى أطراف الأرض فراراً من الموت، فوضى ( لكنهم سمّوها ثورة)، وهنا تجلى لنا صراع المصطلح في ما حدث في مصر وما حدث بعده في اليمن، هل ما حدث ثورة أم انقلاب، فكل طرف يسميه بما يتسق مع مصلحته ومراده، ولا مرجعية تحكمنا.
كم الكثير من التصورات المغلوطة والمشوهة، ونقدها ليس ترفاً فكرياً، أو مكاناً لاستعراض الكلمات، بقدر ما يعتبر ضرورة قصوى، فهذه التصورات صاغت أفكارنا، وأفكارنا هي من تقودنا الآن لكل تحرك، كم مخيف من الزيف فينا، زيف يجمّل واقعاً نتناً لا يصلح للحياة، فالإجرام سمي جهادً، والتفكير والنقد والرأي زندقة وازدراء، والكذب شطارة وحِنكة، والتاريخ دين، والمرأة عورة وعارٌ… الخ.
الحاكم والكاهن، يجسدان منذ ارتبطا، أورثانا جنيناً مشوهاً، كم نحتاج من رصيد زمني لعلاجه، مجتمع أساسه الفكري مليء بالألغام والعبث والخطوط الحمراء، أفكار ليست أقل من قنابل موقوتة تنتظر وقتها (فعلياً)، عبث في تعريف الأمور من حولنا وتسميتها بغير حقيقتها، خطوط حمراء (أغلبها وهمٌ) لا يمكنك تجاوزها مازحاً أو مجادلا. لأنها تدخلك في خانة الكفر والزندقة، وحينها تصبح مستباح الدم، قتلك عبادة.
واقع مخيف، يحتاج جهوداً جبارة، وعملاً منظماً يعيد العقل العربي الجمعي إلى حالة من الاتزان، حيث تعود للأشياء والأفعال مسمياتها، فيعود التفكير منطقياً، والحوار ممكناً، ويعود العقل فاعلاً .
- مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.