على الصعيد التقني، صارت الحروب أشبه بلعبة طائشة من لُعَب الأطفال، والمسافة التي خلقتها وكرستها وسائل التكنولوجيا بين القاتل والضحية قد منحت القاتل الفرصة كاملة لتنفيذ فعلته بكل أريحيّة وراحة بال وليس من المُستبعد أن يعود بعد وقتٍ قصير من تنفيذ مهمته ليجلس على أريكة ناعمة لاحتساء شرابه البارد أو شاياً بالنعناع وكأن شيئاً لم يكن، ومنعت بالتالي من قيام أي شكل من أشكال العلاقة الإنسانية بين الاثنين، وهي علاقة كانت تحضر في الحروب التقليدية عن طريق المواجهة المباشرة في ساحة المعركة، وغيرت في كثير من المرات مساراتها بالضغط على الجانب الإنساني المتقابل.
فضلاً عن الدور السلبي الذي باتت تكرسه وسائل الإعلام الجديدة، فتداول أخبار الضحايا، ونشر صورهم وعلى مدار الساعة بات أقل بعثاً للقلق والتوتر من مباراة يخوضها فريق برشلونة أو ريال مدريد مع فريق من الدرجة الثانية في بطولة الكأس الإسباني على سبيل المثال!
أكتب هذا على وقع جرائم كثيرة شهدتها المنطقة خلال الأعوام المنصرمة، وبشكلٍ شبه يومي، لدرجة أننا تشبعنا كثيراً بها وبتنا نستكثر خمس أو عشر ثوان نمنحها من وقتنا للوقوف على خبر يتحدث عن مجزرة راح ضحيتها العشرات، لقد عمل هذا الإشباع وهذا التعود على إذابة ردة فعلنا الطبيعية تجاه البشاعة، وبشكلٍ كلي!
يوم السبت قبل الماضي حدثت مجزرة كبيرة في صالة عزاء بصنعاء راح على إثرها مئات الضحايا من المدنيين، وصور الضحايا التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تجعل الرأس يشتعلُ شيباً، لكن كل تلك البشاعة لم تكن كافية لإدانة الجريمة والمطالبة بفتح تحقيق محايد وتقديم المجرمين للعدالة، فراح المفسبكون المتخندقون على الجانب الآخر من الصراع يفتشون في رفوف الأحداث عن تبريرات سخيفة، وكأنهم يتحدثون عن ورقة شجرة صفراء سقطت كالعادة في موسم الخريف.
ولعل ما يثير السخرية والضحك في وسط هذا البلاء، وشر البلية ما يُضحك، هي تلك الإدانة التي صاغوها على هيئة دفاع بتذكيرنا بمجازر مشابهة ارتكبها أحد أطراف الصراع، وكأنهم بهذا التذكير يحثونا على عدم تكليف، وربما “توريط”، أنفسنا بشجب وإدانة هذه الجريمة، خشية منهم أن تُحسب إدانتنا للجريمة في رصيد الطرف الآخر. طيب ألم نعتبر وتعتبرون مثل هذه المجازر السابقة جرائم إبادة جماعية، ومرتكبيها مجرمي حرب، وجرائمهم لن تسقط بالتقادم، فألا يعني هذا، أن كل الجرائم التي تحدث بنفس الطريقة تنطبق عليها نفس المصفوفة من الأحكام، وموقفنا منها جميعاً يجب أن يكون متطابقاً ومتساوياً وكأسنان المِشط.
إن استدعاء هذه المجازر السابقة في سياق المحاججة هو أكبر إدانة لمجزرة يوم أمس، وليس العكس، وكما يعتقد المفسبكون الذين باتوا يقلبون أعالي مواقفنا سافلها!
لقد طفحت الخصومات والعداء بشكلٍ مرعب يبعث على سبعين خريف من القلق والخشية من القادم، فهذا التحطيم والتدمير الفظيع والمثابر والمُنظم للذوات، خراب يتجاوز كل الحدود، وقد خلق معه أشباحاً كُثر باتت تُحلق في باحات نفوسنا بحرية تامة، وتُمسك بخناقها، وسيكون لكل ذلك التردي السحيق وحالة “التَشبُّح” التي نعيشها تداعيات مدمرة بدون شك!
وإذا كان التاريخ والظروف تعمل على تبديل وتغيير بوصلة العداء والخصومات، فعلى الجميع أن يشعر بالقلق كثيراً، فمثل هذا التبريرات المفتقرة لذرة من الإنسانية والقيم ستُقام في الغد القريب ضد جماعات أخرى صارت بوصلة العداء ـ التي لم تأخذ راحة قط ـ تؤشر نحوها.
إن الحالة الوحيدة التي يظهر فيها نُبل الإنسان ورقيه وتُختبر فيها قيمه هي لحظة الخصومة، ويتجلى ذلك في أوضح ما يكون بقدرته على ضبط وكبح نفسه ونزعاته السلبية حتى لا يكون رد فعلها يتجاوز ما هو إنساني مهما كانت بشاعة وحقارة الخصم!
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.