يعتقد الحاج “إبراهيم” وهو سائق حافلة خاصة تنقل الركاب بين الأحياء الشرقية في مدينة عدن جنوب اليمن أن “الشباب اليوم من الجنسين يتعرضون لغسيل أدمغة، وزرع مفاهيم دخيلة”.
وتلتصق في الزجاج الأمامي للحافلة صورة تذكارية للسائق مع مجموعة من رفاقه في وحدة عسكرية تعود فيما يبدو إلى ثمانينات القرن الماضي عندما كان جنوب اليمن دولة مستقلة، وقال الحاج إبراهيم وهو يأخذ أجرة من راكبة غادرت الحافلة في إحدى المحطات “فتاة أخرى في مثل سنها رفضت الركوب في الحافلة لأنها فارغة، أنا في عمر والدها، هذه ليست عاداتنا وهذا ليس ديننا”.
قيم مدنية سابقة
ويعتقد جنوبيون ينتظمون اليوم في احتجاجات متواصلة لانفصال جنوب اليمن أن الوحدة اليمنية التي وقعت العام 1990م جاءت على حساب القيم المدنية التي سادت في الجنوب لأكثر من 160 عام خلال الحقبتين البريطانية والاشتراكية.
وقالت “رؤى نعمان” وهي طالبة جامعية وتدير مبادرة “ألوان” الشبابية التي ينشط فيها فتية وفتيات لـ”منصتي 30“: “في جنوب اليمن خلال حكم الحزب الاشتراكي كانت هناك مساواة بين الجنسين طبقاً لما هو منصوص عليه في الدستور والقوانين وعملياً في الواقع، كان الجنسان يلتقيان في أكثر من صعيد كالعمل والدراسة والأنشطة الاجتماعية وحفلات الزواج والمناسبات العامة، بعكس شمال اليمن قبل الوحدة وبعدها، وإن كان هناك محاولات الآن لكسر الحاجز بفعل انتشار التعليم والمؤثرات الخارجية”.
وحكم الحزب الاشتراكي الذي عقد تحالفاً مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي دولة جنوب اليمن عقب خروج بريطانيا بسنوات، واحتفظت تشريعات سنها خلال فترة حكمه بحق المساواة بين الرجل والمرأة، وكفلت الحماية للمرأة فعززت ثقتها بنفسها أمام الرجل وعلاقتها معه.
ونصت المادة 38 من دستور العام 1970 في جنوب اليمن على منح “كل مواطن على السواء بما فيها المرأة الحق في رسم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، فيما نصت المادة 36 من دستور العام 1978 على أن “تضمن الدولة حقوقاً متساوية للرجال والنساء في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوفر الشروط اللازمة لتحقيق تلك المساواة”.
وقالت الأديبة هدى العطاس لـ”منصتي 30″ أن “روح المدنية في الجنوب تعرضت لضربات منذ العام 1990م، وتضررت تبعاً لذلك مكانة المرأة في الجنوب ثم علاقتها مع الرجل، نتيجة تدمير الذهنية الجنوبية”، وأضافت “في المدارس، لم يكن يفصل درج الفتاة عن درج الفتى شيء، لكن كانت تفصلهما مساحة واسعة من الاحترام المتبادل”.
وتم الفصل بين الطلاب والطالبات في المدارس التي كانت مختلطة في الجنوب عقب حرب صيف العام 1994 التي انتهت بانتصار قوات الشمال ودخول عدن.
عقدان من القيم الدخيلة
وتوحد جنوب اليمن مع شماله عام 1990م وبقي جزء من ملامح الدولة في الجنوب خلال المرحلة الانتقالية حتى اندلاع الحرب، ثم تشكلت كتلة عازلة من المفاهيم والمعتقدات بين الجنسين جعلت العلاقة بينهما تنحصر في إطار الدراسة والعمل.
وتعتقد المدونة والطالبة الجامعية “زينة الغلابي” إن “الحاجز ظل يكبر منذ الفصل بين الجنسين في التعليم الأساسي، وتربية الفتيات على أن الرجل ذئب له أغراضه، وتربية الولد على أن المرأة عورة محظور النظر إليها أو التعامل معها”.
وتؤمن مقدمة البرامج الإذاعية ميرفت العبسي أن “تدهور القيم النبيلة لدى المجتمع في عدن، والاستعاضة عنها بقيم دخيلة غرست نفسها في عقول النشء حتى أصبحت السائدة ومنبع لسلوكيات الافراد في المجتمع، تسبب في تراجع الوعي المجتمعي والنظرة إلى العلاقة بين الرجل والمرأة”.
وتقول هدى العطاس “أن ما حدث بعد العام 1994 كان تصدير المد الوهابي إلى الجنوب، لم يكن مداً إسلامياً، فرضوا أجندة مذهبية خاصة ببعض الجماعات الدينية على الجنوب”، وأضافت “ضربوا قانون الأحوال الشخصية الذي كان سائداً في الجنوب، والذي كان يوفر حماية كبيرة للمرأة من الاستغلال والاضطهاد”.
عود على بدء
ومنذ العام 2011 دشن نشطاء في مبادرات وتحالفات شبابية أنشطة إنسانية ومجتمعية مشتركة للجنسين خارج إطار العمل والدراسة أعادت خلق بيئة متوازنة من الثقة المتبادلة وقناعات بالمصير المشترك وأوجدت صداقات مختلطة في محيط فاعل.
وتعتبر زينة الغلابي وهي تنشط في مبادرات شبابية مختلطة وكانت قد تعرضت مع أخريات لاعتداء من متشددين دينيين لجلوسهن في مقهى شعبي عتيق بالبلدة القديمة “كريتر” مع رفاق شباب للترتيب لأنشطة أن “المبادرات الشبابية صنعت جواً من الألفة وتوحد وتبادل الأفكار، وصححت النظرة بين الجنسين فليس كل رجل ذئب كما كانوا يلقوننا في المدارس، وليست المرأة جسداً للنظر إليه أو إخفائه وحجبه، إنما فكر وإبداع لا يقل عن الرجل وقد يغلبه أيضاً”، وأضافت “نحن في المبادرات لسنا فريق عمل، إنما أصدقاء وإخوة”.
وتقول ميرفت العبسي إن “الفضل في عودة هذه العلاقة إلى نصابها الصحيح يعود إلى العودة من جديد إلى تبني الأفكار المستنيرة لدى الشباب ووعيهم بحقيقة ما يجري من حولهم من هدم مستمر للقيم الإنسانية النبيلة من جهات ترفض كل ما هو جميل ومستنير في هذا المجتمع”.
قيود وتطلعات
وبالرغم من تحسن نظرة الجنسين إلى بعضهما، تقر العبسي أن “هناك بعض القيود التي تحيط بهذه العلاقة تتمحور في الفهم الجيد والصحيح للعلاقة ومعرفة حدودها وعدم تجاوزها”. في حين ترى زينة الغلابي أن “بعض القيود الاجتماعية التي فرضتها العادة المتوارثة لازالت باقية”، وبالمقابل تطمح الأديبة “هدى العطاس” وهي الناطقة باسم تيار يبذل جهداً لجمع فصائل الحراك الجنوبي في مؤتمر جامع أن “المرأة الجنوبية وهي تخوض نضال الحرية مع أخيها الرجل فإن نظرتها تتجه إلى المستقبل وليس إلى الحاضر فقط، بما يعني تأسيس شراكة كاملة في المستقبل الجنوبي مع أخيها الرجل وأن قضية المرأة وحقوقها تتوازى في الأهمية وقضية حرية الجنوب”.