السياسية تقوم أساساً على الخصومة؛ يُنازع السياسي منافسيه داخل جماعته، والجماعة تُنازع جماعات أخرى منصتي 30
article comment count is: 0

في المؤامرة أو دهليز السياسة المُوحش!

علينا أن نُميّز بين أمرين/موقفين: القول بوجود “مؤامرة” خارجية كواحدة من العمليات السياسية التي تجري بين الدول والجماعات المتنافسة، والقول بأن كل ما يحدث في بلدٍ ما من خراب هو بفعل صرفٍ لأيادي خارجيّة. من الواضح أن القول الثاني ينضح بالسذاجة والتبسيط والكسل التام عن الرغبة في معرفة حقائق السياسة وطبائع تنافس وصراع الجماعات المحلية وسيرورة انتقالاتها وتحولاتها. فلكي يكون مثل هذا الأمر حقيقياً وصائباً، كان من المنطقي انتفاء وجود دولٍ معافاة على مستوى العالم عدا عن بضعة دول تُسيطر بإحكام على توزيع أسباب الخراب شرقاً وغرباً، وهذا ما يدحضه الواقع كلياً.

في نفس هذا المستوى من السذاجة يأتي الرأي القائم على الإنكار الكلي لوجود أي نوايا خارجية سيئة لأنظمة الدول السياسية تجاه بعضها البعض خصوصاً تلك التي تتقاطع، وربما تتنافر بشكلٍ لا مفر منه، شبكات مصالحها المشروعة وغير المشروعة.

قبل عدّة سنواتٍ كان المفكر الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي يتحدث في ندوة أقامتها الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، وقد حضر هذه الندوة نخبة السياسة والثقافة في مصر، وأثناء حديثه عن قضايا المنطقة والدور الأمريكي، قاطعه أحد الحضور مستفسراً عن حقيقة وجود مؤامرة على الانتفاضة المصريّة، رد تشومسكي بأنه لا يستخدم مصطلح “مؤامرة” عند تناوله لمثل هكذا موضوعات شائكة، ولكنه يُفضّل الحديث عن “مخططات”، وهذه الأخيرة موجودة بالفعل.

وتجنباً لكل الالتباسات والرعب الذي قد توّلِّده مفردة “مؤامرة”، فضلاً عن الإيحاءات العائمة والمائعة التي تُخلفها، يمكننا الحديث بأريحية أكثر عن “مخططات”، وكما اقترح علينا تشومسكي.

فما هو معلوم، أن النشاط السياسي لا تقوم على إدارته جمعيات خيريّة حتى نفترض نوايا حسنة كاملة تُحرك الأفعال والأقوال، وإن وُجِد سوء من نوعٍ ما ، فلن يكون سوى  خطأ عرضي غير مقصود. هذا الفهم ساذج للغاية، فالسياسية تقوم أساساً على الخصومة؛ يُنازع السياسي منافسيه داخل جماعته، والجماعة تُنازع جماعات أخرى تحت شعارات مختلفة داخل دولة ما، والدول تتنازع فيما بينها في سبيل السلطة والهيمنة والتملك والغرور. وفي عمق هذا المشهد القائم على الخصومة، ستجد أن كل ما يشغل بال السياسي في الغالب هو  التفكير بكيفية إزاحة منافسيه، بكل الوسائل، طالما والسياسة هي فن الممكن في الأخير. ولو ألقى المرء نظرة سريعة على مذكرات السياسيين في الغرب، حيث التناولات تتسم بشفافية أكبر، لوجد شواهد لا حصر لها من نماذج “المخططات”، تلك التي وضعها مسؤولون/سياسيون ضد دولٍ أخرى، أو ضد جماعات وأفراد منافسين على المستوى المحلي.

وبما أنه ليس من المنطقي أو المعقول أن تكون جميع المخططات ناجحة، وكما أثبتت الشواهد أيضاً، فنجاحها يعتمد في الأساس على الظروف والعوامل المهيأة محلياً؛ كعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ضعف وهشاشة المؤسسات، المشاكل الاجتماعية والثقافية، حالة التخلّف والجهل والتأخر الحضاري…. إلخ. لكن قد نتساءل في سياق هذا الجدل المتشابك عن المفردة التي يُمكن أن تُناسب لوصف “حرب” تشنها دولة/جماعة ضد دولةٍ/جماعةٍ أخرى مثلا! لا شك بأن مفردة “المؤامرة” على هول وقعها ستغدو في هذه الحالة هزيلةً ضامرةً خفيفة كجناح بعوض ولا يمكنها أن تفي بالغرض التعبيري قط؛ وبحسب مؤلف “قصة الحضارة” ول ديورانت فإن الثلاثة ألف والأربعمائة عام من عمر التاريخ البشري المُسجل لا تُوجد من بينها سوى 268 سنة بدون حربٍ!

لو تأملنا جيداً في الأحداث التي عاصرناها، لوجدنا مثلاً أن أمريكا تدخلت في حرب الخليج الأولى بدواعٍ مختلفةٍ من بينها “الأمن القومي”، وتحت هذه الذريعة تتدخل روسيا حالياً في أوكرانيا وسوريا، وتتدخل معها أو ضدها كل من إيران والسعودية وتركيا لنفس السبب. وعندما تحاول أن تفك شفرات هذا المُصطلح الذي تتقاتل من أجله دولٍ عظمى متقدّمة متسلحاً بالنوايا الحسنة التي لا علاقة له بالأجندة السياسية، لن تَصِل إلى أي خلاصة مفيدة لهاتين المفردتين العائمتين على نحو لا يُصدق.

بإمكان نموذج كنموذج “غزو العراق” أن يختصر علينا الكثير من المحاججة، والكثير مِما قد يُقال هنا. ففي العام 2003 شنت الولايات المتحدة وبمساندة دول عظمى وصغرى حرباً لغزو العراق تحت ذريعة نشر الديمقراطية والقضاء على اسلحة الدمار الشامل. ومع أن العراق لم يكن النموذج الديكتاتوري الوحيد الموجود في العالم، ولا نظامه السياسي هو النظام الوحيد الذي لديه مشاكل مع جيرانه، وأما أسلحة الدمار الشامل فقد اتضح بانها كانت كذبةً كُبرى، وما زالت الدعاوى القضائية في الغرب تلاحق المسئولين المشتركين في هذا الغزو بسبب جنحة تلفيق المعلومات.

فإذا كان الأمريكيون جاءوا تحت هدف وحيد؛ نشر الديمقراطيّة، وكما يقولون، يتساءل المرء هنا: أما كان بإمكانهم في سبيل تحقيق هدفهم النبيل مساعدة العراقيين لترتيب وتطوير نظامهم السياسي بعد الإطاحة بنظام صدام حسين الديكتاتوري وكما فعلوا سابقاً مع كوريا الجنوبيّة في سبعينيات القرن المنصرم بنقلها من الديكتاتورية إلى دولة ديمقراطية حديثة متطورة؟ النظام السياسي لأي بلد هو وقتي طارئ في حساب الزمن، بينما المؤسسات السياسية والاجتماعية هي حصيلة خبرات تراكمية لمئات السنين، وعندما تُهتك أو تزول يَصعُب تعويضها. فلماذا تم تدمير هذه المؤسسات؟ وهل سنستكثر على مئات الآلاف من الضحايا العراقيين اعتقادهم بأنهم تعرضوا لـ”مؤامرة” شنيعة؟ هذه المفردة الخادشة لمشاعر الرومانسيين!

لا شك في أن للإخفاق عوامل وأسباب محلية كثيرة وأصيلة خصوصاً في دول العالم الثالث، لكن عندما يتقاطع هذا الاخفاق مع تدخلات خارجية سلبية، تكون التبعات مضاعفة، والتأثيرات أكثر كارثية!

 

* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً