منذ افتتاح قناة السويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تضاعفت أهمية الموقع الجغرافي لليمن AP
article comment count is: 0

اليمن.. البلد المُرتهن لأسطورة الموقع الاستراتيجي!

منذ الأزل اعتمدت الدول التي اُقيمت على المساحة الجغرافية المعروفة في وقتنا الراهن بـ”اليمن” على العامل الجغرافي، ولقد كان لهذا العامل دورٌ حاسمٌ في قيام الكيانات السياسية واندثارها. فمنذ القِدم كانت المنطقة تشرف على طُرق التجارة الدوليّة بين الممالك القديمة في الشرق والغرب ومرّت عبرها أهم السلع والمواد الخام الحيويّة في كل زمان. ومنذ افتتاح قناة السويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تضاعفت أهمية الموقع الجغرافي لليمن حيث أصبح يطل على أهم الممرات التجارية في العالم، ثم تضاعفت هذه الأهمية مجدداً مع اكتشاف البحيرات النفطية في الممالك والإمارات المجاورة.

وإذا كان التاريخ يخبرنا بصورةٍ واضحةٍ بأن استراتيجيات الامبراطوريات والدول تقوم أساساً على مخططات تهدف إلى السيطرة على الموارد الطبيعية ذات الأهمية القصوى، وكذلك إلى تأمين خطوط التجارة بين الدول، سندرك إذن تلك الأهمية البالغة التي حظي بها هذا البلد المُطل على مضيقٍ بحريٍّ يمر عبره حوالي ثلث صادرات النفط، ويُشكل في نفس الوقت خاصرة جنوبية للدول الأكثر انتاجاً لأكثر السلع اهمية في العصر الحديث. لهذا السبب، لن يجد المرء غرابة من ذلك الحيز الذي يُفرد عادةً لـلحديث عن “الموقع الاستراتيجي” عند تناول الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية بالدراسة، ليس تلك المتعلقة باليمن فحسب، ولكن في معظم الدراسات والبحوث التي تهتم بقضايا المنطقة.

لقد شكّلت هذه المنطقة خلال حقبة الحرب الباردة نقطة استقطاب وتنافس محوريّة بين القوتين/الإيديولوجيتين الساعيتين للهيمنة على العالم وقتذاك، لذلك كان من الطبيعي أن يتوزع ولاء الدولتين اللتين كانتا قائمتين في الشمال والجنوب بين المعسكرين المتصارعين: الاشتراكي – الرأسمالي، الشرقي- الغربي. ولعل من أكبر السلبيات المترتبة على تبعات هذا الاهتمام الخارجي (الفج) هي تلك العادة التي باتت مُلازمة لسلوكيات النخب السياسيّة، حاكمة ومُعارضة، في اعتمادها شبه الكلي على مشورات وتوجيهات وتوصيات وأوامر رُعاتها الخارجيين حتى في تلك القضايا والمواضيع ذات الأهمية المتواضعة، لدرجة يبدو معها السياسي اليمني وكأن همه وشغله الشاغل يكاد يقتصر في البحث عن سُبل تمكنه من الحصول والاحتفاظ بالنصيب الأوفر من الحظوة دون سواه من منافسيه المحليين. وعلى الرغم من كل المشاكل في المنطقة، والانقسامات الحادة، والتحالفات الوثيقة القائمة، إلا أن الملف اليمني بات أكثر ملفات المنطقة افتقاراً للتأثير المحلي في توجيه خياراته ومسار أحداثه، وحتى أولئك المستثنون من الحظوة الخارجية في الوقت الحالي، لأسبابٍ مختلفةٍ، باتوا يسألون بإلحاح أن يتكرم عليهم واحداً من الفاعلين الدوليين ولو بمجرد إيماءة خاطفة!

ولا شك أن هذه العادة (السيئة) بالاعتماد الكلي على الخارج لها تبعات سلبيّة كبيرة، على القضايا الراهنة، وسلبيتها ستكون أكبر وأفدح في المستقبل خصوصاً على ضوء التطورات العالمية الأخيرة التي باتت تؤشِر على حدوث تغييرات واسعة في كثير من المفاهيم والتصورات والسياسات والاستراتيجيات.

فإذا كانت دولةٌ مجاورةٌ كالصومال، تطل هي الأخرى على الممر البحري ذاته من الجهة المقابلة، قد تُرِكت تغرق في الفوضى والخراب والانهيار حتى بلغت منتهاه دون أن تحصل على أدنى مساعدة أو أزهد هم/اهتمام، وليس من المستبعد ان  تكون القوى الدولية والإقليمية الوازنة ومن خلال تطورات الأحداث المتعاقبة قد توصّلت إلى نتيجة مالت إلى ترجيح كفة الوجود المباشر عن طريق البوارج المستلقية قبالة السواحل الصومالية، وبالاستفادة مما توفره الوسائل التكنولوجيّة الحديثة من تسهيلات وإمكانيات عالية غير محدودة، على المساعدة في أعادة بناء مؤسسات هذا البلد قياساً للكلفة الأقل، فضلاً عن أن وجودها المباشر قد وفر لها فرصة كاملة للإمساك بزمام السيطرة على طول الممر البحري الهام…

فإذا كان النموذج الصومالي خلال العشرين سنة الماضية يدحض بقوة الفكرة/الزعم القائل بأن الموقع الاستراتيجي لبلدٍ ما مدعاة للاهتمام (الإيجابي) من قبل الفاعلين الدوليين خوفاً عليه من التعثر والسقوط لِما له من أثار وتبعات سلبية على جميع دول العالم، فإن هبوط أسعار النفط والتغيّرات التي ستُصاحب مثل هذا الهبوط الدراماتيكي، فضلاً عن إيجاد بدائل جديدة لمصادر الطاقة، مما يُقلل من اعتماد العالم على نفط المنطقة، أو على الأقل سيجعل سوقه بواراً مما يدفع بهذه الدول إلى البحث المضني عن مستهلكين لـ”ذهبها الأسود” في كل مكان بطول وعرض العالم، تصاحبه كثيرٌ من التنازلات، وكل ذلك سيؤدي بالضرورة إلى التقليل من أهمية هذه الدول، وافتقاد الأهمية بسبب فقدان النفط الخليجي لقيمته الحيويّة سيجعل من العنصر الثاني الذي قامت عليه أسطورة “الموقع الاستراتيجي” لليمن في مأزقٍ شديدٍ، وربما قد يفقد البلد على إثرها أدنى اهتمام خارجي، الاهتمام الذي بَنَت عليه النخب السياسيّة، وما زالت، كل مشاريعها وخططها المستقبليّة، وما من شيءٍ يلوح في أفق انشغالها عدا عن المحاولات المستميتة للتعلّق بأي قشةٍ منه، مما قد يُهدد البلد بالوقوع مستقبلاً في فراغٍ كليٍّ!

على أنه من الجدير ذكره هُنا أن دولاً كثيرة في تاريخ هذا البلد، وفي أماكن أخرى من العالم قد شَهِدت إما صعوداً سريعاً أو انحداراً سريعاً عندما تأرجحت أهمية مثل هذه العوامل؛ الموارد الطبيعية والمواقع المُطلة على طُرق التجارة، المتغيرة باستمرار، وواحدة من هذه التغيرات التاريخية الكبيرة كان عندما تم اكتشاف طريق الرجاء الصالح، فضلا عن تغيّر مفهومي الزمان والمكان بفعل ما تتيحه الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات، وما تفرضه من أدوار جديدة.

وإذا نظرنا في المؤشرات والإحصائيات الأخيرة التي بدأت تظهر على وقع الانخفاض في أسعار النفط، ولاحظنا مثلا تسجيل قناة السويس لخسائر كبيرة في العام الماضي على الرغم من توسعتها وتطويرها، وفي نفس الوقت عودة الأهمية مجدداً لطريق رأس الرجاء الصالح وكما أشارت بعض التقارير الصادرة حديثاً، فضلا عن تغير مفهومي الزمان والمكان ووضعنا مثل هذه المؤشرات الدالة في الاعتبار لِما لها من ارتباط وثيق بمستقبل دولة كاليمن، لأدركنا ربما بعضاً من ملامح التغيّرات التي تنتظر هذه المنطقة في قادم الأيام.

 

* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “منصتي 30”.

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً