منذ بدء الخلق كان التنقل هو أسلوب حياة البشر، ثم مع الزمن وتغيراته أصبح الاستقرار هو المفضل لهم، وحيثما يجد الإنسان مقومات البقاء يستوطن، لكن التنقل بقي خياراً متاحاً للإنسان يلجأ إليه حين تسوء به ظروف المقام. واستمر به الحال على هذه الطريقة حتى حلت حقبة العالم الحديث، وأصبحت تحكم العالم مجموعة من الأنظمة التي تتبع الدول ثم وضعتْ الحدود بين بينها، وأصبحت الهجرة أكثر صعوبة. ومع اشتعال الحروب حول العالم لجأت الدول المستقرة إلى تشديد الخناق أمام كل من يحاول الهجرة إليها. هذه الصعوبة تتزايد كلما حاول المهاجرون الوصول إلى دول ذات وضع معيشي أفضل.
هجرة غير شرعية
أحد الشعوب التي عانت وما زالت تعاني صعوبات الهجرة هو الشعب اليمني، فعلى امتداد تاريخه المعاصر كانت الأحداث الداخلية كفيلة بخلق رغبة لدى الكثير من اليمنيين في الهجرة وترك الوطن، لكن الطريق لم يكن وردياً أمامهم، فأكثر دول العالم تغلق حدودها في وجوههم، وهذا ما دفعهم إلى اعتماد طريقة أخرى وهي طريقة (الهجرة غير الشرعية). وأمثلتهم كثيرة، وقصصهم متعددة ومؤلمة في أغلبها، بعضهم استطاع اجتياز الحدود بعد معاناة شديدة، بينما سقط البعض أثناء محاولة الوصول إلى وجهتهم، ليصبحَ الهروب هو نقطة النهاية بدل أن يكون نقطة البداية.
وفي الواقع فإن اليمنيين ليسوا إلا جزءاً من هذه المشكلة التي تكاد أن تكون عالمية، فبحسب تقرير منظمة الهجرة الدولية بلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون خارج بلدانهم الأصلية (281) مليون شخص في عام 2020م، وبين عامي2000-2020م تضاعف عدد الذين فروا من النزاعات والأزمات و الاضطهاد والعنف أو انتهاكات حقوق الإنسان من (17) إلى (34) مليونًا.
وإذا ما عدنا إلى شأن المهاجرين اليمنيين فإن الحرب القائمة والصراع المتأجج، والوضع الاقتصادي المتدني، قد جعل الكثير من الشباب يقررون الهجرة بأي طريقة كانت، أحد الأمثلة على هذه الظاهرة تتمثل في ما حصل لـ(خالد) و (محمد) حين سلكا طريق الهجرة الذي يسلكه أكثر اليمنيين هربًا من جحيم الحرب وتبعاتها، بحثاً عن الأمان والاستقرار. محمد وخالد لم يكونا الوحيدين اللذين دفعتهما الحرب إلى درب الهجرة المليء بالمخاطر الكثيرة والقليل من الحظ.
محمد يعمل بالأجر اليومي، وخالد يعمل موظفًا متعاقداً يتقاضى مرتبه بعد شهرين من الانتظار، وفي أحيان كثيرة لا يستطيع أن يطعم طفله ذا الأشهر القليلة. فكرا في الهجرة إلى السعودية، ولكن كان هناك عائقٌ كبيرٌ أمامهما، إذ لم يكن لديهما المال الكافي للهجرة الشرعية؛ لذا قررا أن يسلكا طريق الهجرة غير الشرعية عبر الحدود التي تربط اليمن والسعودية، وفكرا في البحث عن مهرِّب يعرف الشريط الحدودي ولديه خبرة في التغلب على مراقبة قوات الحدود السعودية، حيث يلعب المهربون دورًا مهمًا في عمليات التسلل إلى الأراضي السعودية.
جاء اليوم الموعود، وانطلق خالد ومحمد نحو المكان المتفق عليه مع المهرب ومجموعة من الشباب، واصلوا طريقهم لمدة يومين، وفي منتصف الطريق تركهم المهرب ليواصلوا المسير إلى المكان المتفق عليه، حيث سيكون المهرِّب الآخر في انتظارهم. وفي نهاية اليوم الثالث أضاعوا الطريق، ولم يكن لديهم شبكة هاتف محمول للاتصال، وأوشك الأكل والماء الذي كان بحوزتهم أن ينفد.
حل اليوم الرابع وهم ما زالوا مستمرين في المشي والبحث عن منقذ، في طريق موحشة وصحاري ممتدة، تحيط بهم الرمال من كل الاتجاهات، حتى اشتد عليهم التعب والعطش والجوع، وبدأت تظهر آثار التعب على الأخ الأكبر خالد، الذي كان غير قادر على مواصلة الطريق، لكن الطريق مازال طويلاً، ولا توجد آمالٌ للوصول إلى وجهتهم. ثم واصلوا السير، ولكن بعد عشرين دقيقة شعر خالد أن هذه هي النهاية، وأخبر أخاه بوصيته الأخيرة: أن يعتني بابنه. ومن ثم فارق الحياة.
حدود الموت
لم يكن محمد يريد أن يترك أخاه الذي مات، ولكن تم إقناعه من قبل رفاقه، وترك جثة أخيه، وواصلوا السير، واستطاعوا أن يلتقوا بالمهرِّب في نهاية اليوم الخامس، ونجحوا في الوصول إلى مقصدهم، واستطاعوا الدخول إلى السعودية.
اتصل محمد بأهله ليخبرهم بمكان جثة أخيه، واستطاعوا الوصول إليه وأخذه ودفنه في منطقته، تاركًا خلفه حزناً دائماً لزوجته وابنه الرضيع وأخيه المهاجر وأسرته وأصدقائه ومعارفه.
آلاف المهاجرين اليمنيين غير الشرعيين يعبرون الحدود شهريًا مثل محمد ورفاقه، غير أن الحظ لا يحالف الجميع، فالبعض يفقد حياته كما حدث لخالد، أو يعتقل بعد وصوله من رحلة شاقة وخطيرة.
وإذا تساءلنا عن الأسباب التي دفعت ببطلينا إلى اختيار هذه الطريقة المُميتة للهجرة فإن لديهما العديد من الأسباب: فتكلفة الهجرة الشرعية من اليمن إلى السعودية باهضةٌ جداً، تتراوحُ بين (7) إلى (15) ألف ريال سعودي أي من (2000) إلى (4000) دولار للشخص الواحد، وتبلغ تكلفة فيزا العمل الحر في السعودية أكثر من (12) ألف سعودي أي ما يعادل (3500) دولار، بينما فيزا العمل المخصصة بمهنة محددة كالطبخ، الحلاقة، السباكة وما شابه تبلغ كلفتها (7000) ريال أي ما يعادل (1900) دولار، ولا يحق لحاملها العمل في مهنة أخرى ومن يخالف يتعرض للطرد.
إنه أمر قاس يتعرض له هؤلاء الأشخاص، فهم لم يختاروا هذه المجازفات والتعرض لهذه المتاعب إلا هرباً من معاناة أكبر في بلدهم. ولعلنا هنا نتساءل مرة أخرى: هل يمكننا أن نحد من هذه الظاهرة؟ باعتقادي نعم، يمكننا ذلك؛ من خلال تحفيز الشباب من قبل صناع القرار للمشاركة في الحياة السياسية، وحل النزاعات، وفتح مجالات لاستثمار مؤهلات الشباب، وتوفير النوادي الثقافية، والجمعيات، وتوفير فرص عمل للشباب، و الاهتمام بمؤهلاتهم من خلال توفير بعض الامتيازات، و القضاء على المحسوبية، وتحقيق العدل والمساواة، وأخيراً التركيز على التدريب في البرامج الدراسية؛ لتحفيز الشباب على التعلق بوطنهم وعدم التفريط فيه، وتفعيل الاتفاقيات المشتركة بين المملكة العربية السعودية والسلطات اليمنية لحماية الحدود ومراقبتها.
ما زال المهاجرون يتحملون مثل هذه الرحلات القاسية، ويعانون من الشعور بالاغتراب وصعوبة التأقلم على حياة مختلفة مقابل الحصول على الاستقرار، ولأجل حياة آمنة يغادرون وطنهم الذي تصفه المنظمات الدولية بأنه أحد أكثر الأماكن خطورة في العالم، بينما لاتزال الحرب وتبعاتها تفتك بأرواح من تبقى في الداخل كل يوم.
- هذه المادة تم إنتاجها ضمن مشروع “كلمتين على بعض” الذي ينفذه نادي تكوين الثقافي، بتمويل من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).